صب القفشة: فنٌ بحريٌ أصيلٌ وأسرارُه الخفية
في أعماق المحيطات الشاسعة، حيث تمتزج زرقة المياه اللازوردية مع لمعان الرمال الذهبية، تكمن كنوزٌ لا حصر لها، ليست فقط ثرواتٌ طبيعيةٌ بل أيضاً فنونٌ وتقاليدٌ عريقةٌ تتناقلها الأجيال. ومن بين هذه الفنون، يبرز “صب القفشة” كواحدٍ من أبرزها، وهو فنٌ قديمٌ متجذرٌ في ثقافة المجتمعات الساحلية، ويرتبط ارتباطاً وثيقاً بأسماء البحر وتنوعاته. هذا الفن، الذي يبدو بسيطاً في ظاهره، يحمل في طياته عمقاً معرفياً ومهارياً، ويعكس فهماً دقيقاً للعلاقة بين الإنسان وبيئته البحرية.
ما هو صب القفشة؟ رحلةٌ إلى قلب التقليد البحري
“صب القفشة” هو مصطلحٌ شعبيٌ يُطلق على عملية استخراج بعض الكائنات البحرية الصغيرة، والتي غالباً ما تكون ذات قيمة غذائية أو اقتصادية، باستخدام أدواتٍ بسيطةٍ مصممةٍ خصيصاً لهذه الغاية. الأداة الرئيسية في هذه العملية هي “القفشة”، وهي نوعٌ من الشباك اليدوية الصغيرة أو المغارف المجهزة بشبكةٍ رفيعة، تُستخدم لجرف قاع البحر أو سحب المياه لجمع ما تحويه. غالباً ما يتم هذا العمل في المناطق الضحلة، عند انحسار المد، حيث يسهل الوصول إلى الكائنات المختبئة في الرمال أو بين الصخور.
تتنوع الكائنات التي يتم استخراجها بـ “صب القفشة” بشكلٍ كبير، وتشمل غالباً:
الأسماك الصغيرة: أنواعٌ معينةٌ من الأسماك التي تعيش في القاع أو تتغذى على الكائنات الصغيرة، مثل بعض أنواع البلميدا والأنقليس، بالإضافة إلى صغار الأسماك التي قد لا تكون صالحة للاستهلاك المباشر ولكنها تُستخدم كطعمٍ للصيد.
القشريات: مثل الروبيان الصغير (الجمبري)، وسرطان البحر الصغير، وبعض أنواع المحار والروبيان التي تعيش في قاع البحر.
الرخويات: مثل بعض أنواع المحار، والحلزونات البحرية الصغيرة، وبلح البحر، والتي يمكن استهلاكها بعد طهيها.
الأحياء الدقيقة: في بعض الأحيان، قد تشمل “القفشة” أيضاً كائناتٍ دقيقةً مثل بعض أنواع الطحالب الصغيرة أو اليرقات البحرية، والتي قد تكون جزءاً من السلسلة الغذائية البحرية أو تستخدم كمكوناتٍ في وصفاتٍ معينة.
أسماء البحر: لغةٌ غنيةٌ وتراثٌ متوارث
لا يمكن الحديث عن “صب القفشة” دون الغوص في عالم “أسماء البحر”. البحر ليس مجرد مسطحٍ مائيٍ واسع، بل هو عالمٌ متكاملٌ تنبض فيه الحياة بأشكالٍ وصورٍ متعددة. ولدى المجتمعات البحرية، تتجاوز أسماء الكائنات البحرية مجرد تسمياتٍ وصفية، لتصبح جزءاً لا يتجزأ من هويتهم الثقافية، ولغةً تعكس خبرتهم المتراكمة وفهمهم العميق لهذا العالم.
تتنوع أسماء الكائنات البحرية التي يتم استخراجها بـ “صب القفشة” بشكلٍ كبير، وتختلف من منطقةٍ إلى أخرى، بل ومن قريةٍ إلى أخرى. هذه الأسماء غالباً ما تكون:
وصفية: تعتمد على شكل الكائن، لونه، حجمه، أو طريقة عيشه. مثلاً، قد يُطلق على سمكةٍ ذات ذيلٍ طويل اسم “ذنب البحر”، أو على قشريٍ صغيرٍ ذي لونٍ أحمر اسم “ياقوت البحر”.
ارتباطية: ترتبط بأسطورةٍ محلية، أو حادثةٍ تاريخية، أو حتى بصفةٍ إنسانيةٍ تُنسب للكائن. قد تُطلق على حيوانٍ بحريٍ صغيرٍ اسم “حارس الشاطئ”، أو على رخويٍ ذي قشرةٍ مزخرفة اسم “جوهرة الموج”.
محاكية للأصوات: بعض الكائنات قد تُسمى نسبةً للأصوات التي تصدرها أو الأصوات التي تُشبهها.
مستمدة من مناطق تواجدها: قد يُطلق على كائنٍ يعيش في مناطقٍ معينة اسم “سمك الشعاب” أو “حلزون الوديان الرملية”.
أمثلةٌ على أسماء البحر وتأثيرها على صب القفشة:
1. “الذهب الصغير” (الروبيان الصغير): غالباً ما تكون هذه المخلوقات الصغيرة ذات قيمةٍ غذائيةٍ عالية، وتُعتبر صيدها بـ “القفشة” مصدر دخلٍ إضافيٍ للعائلات. أسماؤها المتعددة، مثل “الجمبري الرملي” أو “الذهب الصغير”، تعكس قيمتها.
2. “لآلئ القاع” (بعض أنواع المحار الصغيرة): هذه الرخويات الصغيرة، التي تتجمع في قيعانٍ معينة، قد تكون مطلوبةً لأطباقٍ بحريةٍ خاصة. أسمائها قد تشير إلى شكلها الدائري أو لونها اللامع.
3. “صغار الحراس” (أسماك صغيرة تعيش بالقرب من الشواطئ): قد لا تكون هذه الأسماك كبيرةً بما يكفي للاستهلاك المباشر، لكنها تُستخدم كطعمٍ قيمٍ للصيد، أو قد تكون جزءاً من النظام الغذائي لأسماكٍ أكبر.
4. “أصداف الأغاني” (حلزونات بحرية صغيرة): بعض هذه الحلزونات قد تكون لها قشورٌ جميلةٌ تُستخدم في الزينة، أو قد تكون ذات قيمةٍ طعاميةٍ في بعض الثقافات.
5. “دموع الموج” (كائنات بحرية شفافة وصغيرة): قد تشير إلى كائناتٍ هلاميةٍ أو يرقةٍ بحريةٍ تُجمع أحياناً لاستخدامها كغذاءٍ للكائنات البحرية الأخرى أو كسمادٍ عضوي.
التقنيات والأدوات: براعةٌ في البساطة
لا يقتصر فن “صب القفشة” على مجرد سحب الشبكة، بل يتطلب مهارةً ودرايةً بالتوقيت المناسب، وفهمٍ لطبيعة الشواطئ وقيعانها، ومعرفةٍ بسلوك الكائنات البحرية.
أدوات صب القفشة:
القفشة (المغرفة الشبكية): وهي الأداة الرئيسية. تصنع غالباً من خشبٍ قويٍ أو معدنٍ، وتُركب عليها شبكةٌ رفيعةٌ ومتينة. تختلف أحجامها وأشكالها حسب نوع الكائنات المستهدفة. قد تكون دائرية، مربعة، أو مستطيلة.
العمود (المقبض): وهو عمودٌ طويلٌ متصلٌ بالقفشة، يسمح للممارس بالوصول إلى مناطق أعمق قليلاً أو التعامل مع المياه المتقلبة.
السلال أو الأوعية: لجمع ما يتم استخراجه. غالباً ما تكون من موادٍ طبيعيةٍ مثل الخيزران أو القش، أو من البلاستيك.
تقنيات صب القفشة:
الجرف عند انحسار المد: هي الفترة المثالية، حيث تكون المياه في أقصى انخفاض، وتظهر مناطقٌ واسعةٌ من قاع البحر. يقوم الممارس بـ “جرف” القفشة عبر الرمال أو بين الصخور، لجمع ما تحويه.
السحب في المياه الضحلة: في بعض الأحيان، يمكن استخدام القفشة لسحب المياه في المناطق التي تتواجد فيها الكائنات الصغيرة بكثرة، مثل تجمعات الروبيان.
العمل بالتعاون: غالباً ما يعمل الصيادون بشكلٍ جماعي، حيث يقوم أحدهم بالجرف بينما يقوم الآخر بتنظيف القفشة أو جمع ما فيها.
التوقيت الموسمي: بعض الكائنات تكون وفيرةً في مواسم معينة، مما يتطلب معرفةً بالدورات الطبيعية للكائنات البحرية.
الأهمية الاقتصادية والاجتماعية: ما وراء الصيد
لا يقتصر دور “صب القفشة” على توفير مصدرٍ للغذاء أو الدخل، بل له أبعادٌ اجتماعيةٌ وثقافيةٌ أعمق:
مصدر رزقٍ إضافي: في كثيرٍ من المجتمعات الساحلية، يُعد “صب القفشة” نشاطاً يمارسه الصيادون وعائلاتهم في أوقات فراغهم، أو كنشاطٍ موسميٍ لتكملة دخلهم.
توفير الغذاء المحلي: يساهم في توفير مصادرٍ غذائيةٍ طازجةٍ ومحلية، خاصةً فيما يتعلق بالأسماك الصغيرة والقشريات التي قد لا تكون متوفرةً دائماً في الأسواق الكبيرة.
نقل المعرفة والمهارات: يُعد وسيلةً فعالةً لنقل المعرفة التقليدية حول البحر، الكائنات البحرية، وتقنيات الصيد من جيلٍ إلى جيل.
تعزيز الروابط الاجتماعية: غالباً ما تتم هذه الأنشطة في مجموعاتٍ صغيرة، مما يعزز الروابط الاجتماعية والتكافل بين أفراد المجتمع.
فهم أعمق للبيئة البحرية: الممارسون لـ “صب القفشة” يكتسبون فهماً دقيقاً للتغيرات في المد والجزر، وأنماط حركة الكائنات البحرية، وصحة البيئة البحرية بشكلٍ عام.
التحديات والمستقبل: نحو استدامةٍ بحرية
مثل العديد من الممارسات التقليدية، يواجه “صب القفشة” تحدياتٍ معاصرةٍ تتطلب حلولاً مبتكرة:
التلوث البحري: يؤثر التلوث على صحة الكائنات البحرية وعلى كميتها، مما يقلل من فرص الصيد الناجح.
الصيد الجائر: في بعض المناطق، قد يؤدي الصيد المفرط، حتى باستخدام أدواتٍ بسيطة، إلى استنزاف بعض الأنواع.
التغيرات المناخية: تؤثر التغيرات في درجات حرارة المياه وأنماط التيارات على توزيع الكائنات البحرية وسلوكها.
تراجع الاهتمام بالتراث: مع التطور التكنولوجي وتغير أساليب الحياة، قد يتراجع اهتمام الأجيال الشابة بهذه الممارسات التقليدية.
لضمان استدامة هذا الفن وتراثه، يمكن اتخاذ بعض الإجراءات:
التوعية بأهمية الحفاظ على البيئة البحرية: تشجيع الممارسين على تبني ممارساتٍ صديقةٍ للبيئة، مثل تجنب صيد الكائنات الصغيرة جداً أو العودة إلى البحر.
التوثيق والحفظ: توثيق أسماء البحر والتقنيات المستخدمة، ونقلها إلى الأجيال القادمة عبر ورش العمل والمبادرات التعليمية.
دعم المبادرات المحلية: تشجيع المجتمعات المحلية على تنظيم فعالياتٍ وأنشطةٍ مرتبطة بـ “صب القفشة” لتعزيز الوعي بأهميته.
إدخال تقنياتٍ مستدامة: استكشاف إمكانية تطوير أدواتٍ تقليديةٍ بشكلٍ يتوافق مع مبادئ الاستدامة، دون المساس بجوهر الفن.
في الختام، يظل “صب القفشة” فناً بحرياً أصيلاً، يمثل جسراً يربط الماضي بالحاضر، ويعكس علاقةً حميمةً بين الإنسان والبحر. إنه ليس مجرد صيدٍ لكائناتٍ صغيرة، بل هو احتفاءٌ بأسماء البحر الغنية، وتقاليدٌ متوارثةٌ، وفهمٌ عميقٌ لدورة الحياة البحرية. إن الحفاظ على هذا الفن يتطلب جهداً جماعياً لضمان بقائه حياً، شاهداً على ثقافةٍ بحريةٍ غنيةٍ ومتنوعة.
