النمورة السورية بالسميد: رحلة عبر النكهات الأصيلة والتراث الغني

تُعدّ النمورة السورية بالسميد، تلك الحلوى الشرقية العريقة، أكثر من مجرد طبق تقليدي؛ إنها تجسيدٌ حيٌّ للضيافة والكرم، ولحظةٌ دافئة تجمع الأهل والأصدقاء حول مائدةٍ تزينها هذه القطع الذهبية الشهية. في قلب المطبخ السوري، تحتل النمورة مكانةً خاصة، فهي ليست مجرد حلوى تُقدم في المناسبات، بل هي جزءٌ لا يتجزأ من ثقافةٍ غنيةٍ ومتجذرة، تُروى قصصها عبر أجيال، وتُتوارث أسرارها بحبٍ وشغف.

جذور النمورة في التاريخ والمطبخ السوري

لم تظهر النمورة السورية فجأة، بل هي نتاجٌ لتطورٍ طويلٍ وتأثيراتٍ ثقافيةٍ متبادلة. يعود أصلها إلى وصفاتٍ قديمةٍ تعتمد على السميد، وهو المكون الأساسي الذي يمنحها قوامها الفريد. يُعتقد أن انتشار زراعة القمح في المنطقة، وبالتالي توفر السميد بكمياتٍ كبيرة، قد ساهم في ظهور وانتشار هذه الحلوى. في سوريا، وتحديداً في مدنٍ مثل حلب ودمشق، أصبحت النمورة علامةً فارقةً في فن الحلويات، تتنافس ربات البيوت وصناع الحلوى في تقديم أفضل نسخةٍ منها، كلٌّ بلمسته الخاصة.

لطالما ارتبطت النمورة بالاحتفالات والمناسبات الاجتماعية. فهي حاضرةٌ بقوةٍ في أعياد الفطر والأضحى، وفي حفلات الزفاف، وحتى في الأمسيات العائلية الهادئة. تقديم طبقٍ من النمورة الطازجة، التي تفوح منها رائحة السمن البلدي والقطر المُعطر بماء الزهر أو الورد، هو تعبيرٌ عن الفرح والاحتفاء، ودعوةٌ لمشاركة السعادة.

السميد: نجمة الوصفة وجوهرها

السميد، ذلك المنتج المستخرج من طحن القمح الصلب، هو حجر الزاوية في صناعة النمورة. تختلف أنواع السميد المستخدمة، فمنها الخشن والمتوسط والناعم. عادةً ما يُفضل استخدام السميد الخشن أو المتوسط للحصول على القوام المميز للنمورة، حيث يمنحها تلك الحبيبات الظاهرة التي تُضفي عليها شكلاً جذاباً وملمساً فريداً.

تكمن براعة صانع النمورة في قدرته على التعامل مع السميد. فإما أن يُحمّص السميد قليلاً قبل خلطه بالمكونات الأخرى، أو يُستخدم نيئاً. التحميص يُعطي النمورة لوناً ذهبياً أغمق ونكهةً أعمق، بينما يُبقي استخدام السميد النيء على لونها الفاتح وقوامها الأكثر طراوة. يعتمد الاختيار على الذوق الشخصي والوصفة المتوارثة.

المكونات الأساسية للنمورة السورية الأصيلة

لتحضير نمورة سورية بالسميد لا تتطلب سوى مكوناتٍ بسيطة، لكن دقتها وتناسبها هو سر النجاح:

السميد: كما ذكرنا، هو المكون الأساسي. غالبًا ما يُستخدم السميد الخشن أو المتوسط.
السمن البلدي: يُضفي السمن البلدي نكهةً غنيةً وعطريةً لا تُقارن. استخدام سمنٍ ذي جودة عالية يُحدث فرقًا كبيرًا في الطعم النهائي.
السكر: يُستخدم لتحلية العجينة، ويُساهم في إعطاء النمورة لونها الذهبي عند الخبز.
الخميرة أو البيكنج بودر: تُستخدم لرفع العجينة قليلاً ومنحها قوامًا هشًا. بعض الوصفات تفضل استخدام الخميرة لإعطاء نكهةٍ مميزة، بينما تعتمد أخرى على البيكنج بودر للحصول على قوامٍ أسرع وأكثر هشاشة.
الحليب أو اللبن: يُستخدم لترطيب العجينة وربط مكوناتها.
ماء الزهر أو ماء الورد: يُضاف لإعطاء النمورة رائحةً زكيةً ومميزة.
المكسرات: غالبًا ما تُستخدم اللوز أو الفستق الحلبي لتزيين سطح النمورة، وفي بعض الأحيان تُضاف قطعٌ منها داخل العجينة.
القطر (الشيرة): وهو الشراب السكري الذي يُسقى به وجه النمورة بعد خروجها من الفرن. يُمكن إعداده ببساطة عن طريق غلي السكر والماء، وإضافة عصير الليمون لمنعه من التبلور، مع إضافة ماء الزهر أو ماء الورد في النهاية.

خطوات التحضير: فنٌ يتطلب الدقة والصبر

تتطلب صناعة النمورة السورية توازناً دقيقاً بين المكونات وصبراً في عملية التحضير. إليك الخطوات الأساسية التي تُتبع عادةً:

1. تحضير خليط السميد والسمن

تبدأ العملية بخلط السميد مع السمن البلدي جيداً. تُفرك المكونات بالأيدي لضمان تغليف كل حبة سميد بالسمن. هذه الخطوة، المعروفة بـ “تلييت” السميد، هي مفتاح الحصول على نمورة طرية وغير متفتتة. يُترك الخليط لبعض الوقت، قد يصل إلى عدة ساعات أو حتى ليلة كاملة، للسماح للسميد بامتصاص السمن بشكلٍ كامل، مما يمنحها قواماً فريداً.

2. إضافة المكونات الجافة والسائلة

بعد تلييت السميد، تُضاف المكونات الجافة الأخرى مثل السكر والبيكنج بودر (أو الخميرة) والملح. ثم يُضاف الحليب أو اللبن تدريجياً مع العجن بلطف شديد، فقط حتى تتكون عجينة متماسكة. العجن المفرط قد يؤدي إلى إطلاق الغلوتين في السميد (إذا كان مخلوطاً بالدقيق) أو جعل النمورة قاسية. يجب أن تكون العجينة طرية ولكن غير لزجة.

3. تشكيل النمورة وخبزها

تُفرد العجينة في صينية مدهونة بالسمن. يُمكن فردها بسمكٍ متوسط، ثم تُقطع إلى مربعات أو معينات. في هذه المرحلة، تُزين قطع النمورة عادةً بالمكسرات، حيث تُضغط حبة لوز أو فستق في وسط كل قطعة.

تُخبز النمورة في فرنٍ محمى مسبقاً على درجة حرارة متوسطة حتى يصبح لونها ذهبياً جميلاً من الأسفل والأعلى. وقت الخبز يختلف حسب سمك العجينة وحرارة الفرن، ولكن الهدف هو الحصول على لونٍ ذهبيٍّ مميز.

4. سقي النمورة بالقطر

بعد خروج النمورة من الفرن وهي ساخنة، تُسقى بالقطر البارد (أو الفاتر). هذه الخطوة ضرورية لإعطاء النمورة حلاوتها المميزة ورطوبتها. يجب توزيع القطر بالتساوي على جميع القطع. يُترك الطبق لبعض الوقت حتى يتشرب السميد القطر بالكامل.

أسرارٌ وخبايا: لمساتٌ تُضفي التميز

وراء كل طبق نمورة ناجح، تكمن أسرارٌ صغيرة تُضفي عليه طابعاً خاصاً:

جودة المكونات: لا شيء يضاهي استخدام أجود أنواع السميد والسمن البلدي. هذه المكونات هي أساس النكهة الأصيلة.
وقت تلييت السميد: ترك السميد ليتشرب السمن لفترة طويلة يُحدث فرقاً كبيراً في القوام النهائي.
عدم الإفراط في العجن: العجن المفرط يجعل النمورة قاسية. يكفي خلط المكونات حتى تتجانس.
درجة حرارة القطر: سقي النمورة الساخنة بالقطر البارد (أو العكس) يضمن امتصاصاً مثالياً للقطر دون أن تصبح النمورة طرية جداً أو متفتتة.
استخدام المنكهات: إضافة ماء الزهر أو ماء الورد إلى القطر أو العجينة يمنحها رائحةً عطريةً لا تُقاوم.
نوعية الفرن: الفرن الذي يوفر حرارة موزعة بالتساوي يُساعد على الحصول على لونٍ ذهبيٍّ موحد.

التنويعات والإضافات: لمساتٌ عصرية على طبقٍ تقليدي

على الرغم من أن الوصفة التقليدية للنمورة السورية بالسميد بسيطة، إلا أن هناك بعض التنويعات التي تُضفي عليها لمسةً عصرية أو تُناسب أذواقاً مختلفة:

إضافة جوز الهند: يُمكن إضافة كمية قليلة من جوز الهند المبشور إلى العجينة لإضفاء نكهةٍ وقوامٍ إضافيين.
استخدام أنواع مختلفة من المكسرات: بجانب اللوز والفستق، يُمكن استخدام الجوز أو البندق للتزيين أو حتى داخل العجينة.
النمورة بالجبنة: بعض الوصفات الحديثة تُضيف طبقةً رقيقةً من الجبنة البيضاء المالحة (مثل جبنة العكاوي أو الحلوم بعد إزالة الملوحة) تحت طبقة السميد، مما يُضفي نكهةً مالحةً حلوةً متوازنة.
تزيين خاص: بدلاً من حبة مكسرات واحدة، يُمكن تشكيل النمورة على شكل زخارف أو استخدام طبقاتٍ من المكسرات المطحونة.

النمورة السورية: رمزٌ للكرم العربي

تتجاوز النمورة السورية كونها مجرد حلوى؛ إنها سفيرةٌ للنكهات الأصيلة، وللتراث الغني، ولروح الضيافة العربية. كل لقمةٍ منها تُحمل في طياتها حكايات الأجداد، ودفء اللقاءات العائلية، وفرحة المشاركة. إنها قطعةٌ من التاريخ تُقدم على طبق، وتُستقبل بابتسامة، وتُترك في الذاكرة كأجمل طعمٍ من عبق الشام.

إن تحضير النمورة السورية في المنزل هو تجربةٌ ممتعةٌ تُعيد ربطنا بجذورنا، وتُعلم الأجيال الجديدة قيمة الوصفات التقليدية التي تُبنى على البساطة والجودة والحب. إنها دعوةٌ لتذوق الأصالة، وللاستمتاع بلحظاتٍ حلوةٍ لا تُنسى.