رحلة في عالم الحلويات الشامية: لغز “البقلاوة” وكنوز النكهات الأصيلة

تُعد الحلويات الشامية من أقدم وأعرق فنون الطهي في العالم العربي، فهي ليست مجرد أطباق حلوة تُقدم بعد الوجبات، بل هي إرث ثقافي متجذر، وقصص تُروى عبر الأجيال، ورمز للكرم والضيافة. وفي خضم هذا العالم الواسع من النكهات الغنية والمذاقات الفريدة، يكمن لغز بسيط ولكنه عميق، يتعلق بكلمة سر تدل على أحد أشهر رموز هذه الحلويات، وهي “كلمة السر هي حلويات شامية مشهورة مكونة من 5 حروف”. هذه العبارة، التي تبدو كشيفرة أو لغز، تقودنا مباشرة إلى واحدة من أيقونات المطبخ الشامي، قطعة فنية تُجسد براعة الصانعين ودقة المكونات، وهي “البقلاوة”.

إن اختيار “البقلاوة” كرمز لهذا اللغز ليس من قبيل المصادفة. فهي ليست مجرد حلوى، بل هي قصة تُحكى من طبقات رقيقة من العجين، تتداخل فيها فتات المكسرات، وتُغمر في رحيق القطر الحلو، لتُشكل في النهاية تحفة فنية تُرضي جميع الحواس. اسم “البقلاوة” نفسه، المكون من خمسة أحرف، يختصر تاريخًا طويلاً من التطور والتكيف، حيث انتقلت من أصولها الممتدة إلى ما وراء الحدود الشامية، لتصبح عنوانًا للحفلات والمناسبات السعيدة في مختلف أنحاء العالم.

تاريخ البقلاوة: رحلة عبر الزمن والثقافات

لا يمكن الحديث عن البقلاوة دون الغوص في أعماق تاريخها الممتد. يعتقد العديد من المؤرخين أن جذور البقلاوة تعود إلى بلاد ما بين النهرين (بلاد الرافدين)، حيث كانت تُصنع عجينة رقيقة تُغطى بالزيت والمكسرات. ومع مرور الزمن، انتقلت هذه الوصفة عبر الإمبراطوريات والطرق التجارية، لتصل إلى الأناضول، ومن ثم إلى بلاد الشام واليونان.

في العهد البيزنطي، تطورت وصفة البقلاوة بشكل كبير، وأصبحت تُصنع من طبقات رقيقة جدًا من العجين، تُعرف بـ “الفيللو” (phyllo)، وهي كلمة يونانية تعني “ورقة”. هذه التقنية في رق العجين إلى درجة الشفافية كانت سرًا من أسرار الصناعة، وتتطلب مهارة فائقة ودقة متناهية.

عندما وصلت البقلاوة إلى بلاد الشام، وجدت تربة خصبة لتتطور وتكتسب نكهات محلية مميزة. استخدم الصانعون الشاميون أفضل أنواع المكسرات المتوفرة، مثل الفستق الحلبي واللوز والجوز، وأضافوا إليها لمساتهم الخاصة من الهيل والورد والبرتقال، مما أعطى البقلاوة الشامية طابعها الفريد الذي يميزها عن غيرها.

فن صناعة البقلاوة: دقة وتفانٍ في كل طبقة

تُعد صناعة البقلاوة فنًا بحد ذاته، يتطلب صبرًا ودقة ومهارة عالية. تبدأ العملية بتحضير عجينة الفيللو، التي تُرقق بعناية فائقة حتى تصبح شفافة تقريبًا. ثم تُدهن كل طبقة بالزبدة المذابة، وتُحشى بكمية وفيرة من المكسرات المطحونة، والتي قد تكون عبارة عن خليط متوازن من الفستق الحلبي والجوز أو اللوز، مع إضافة لمسة من السكر والقرفة لإبراز النكهة.

بعد ذلك، تُقطع العجينة إلى أشكال هندسية متقنة، غالبًا ما تكون مربعة أو مستطيلة، أو حتى على شكل هلال أو نجوم لإضفاء جمالية إضافية. ثم تُخبز في أفران خاصة على درجة حرارة معتدلة حتى تكتسب اللون الذهبي الجميل وتصبح مقرمشة.

الخطوة الأخيرة والأكثر أهمية هي غمر البقلاوة بالقطر (الشيرة). يُحضر القطر من السكر والماء، وغالبًا ما يُضاف إليه ماء الورد أو ماء الزهر أو عصير الليمون لإضفاء نكهة منعشة ومنع تجمد السكر. تُصب كمية سخية من القطر الساخن على البقلاوة المخبوزة، مما يسمح لها بامتصاص الحلاوة وتصبح طرية من الداخل ومقرمشة من الخارج.

أنواع البقلاوة الشامية: تنوع يثري الذائقة

تتميز البقلاوة الشامية بتنوعها الكبير، حيث توجد منها أصناف متعددة تختلف في شكلها وحشوتها وطريقة تحضيرها، وكلها تحمل بصمة المطبخ الشامي الأصيل. من أشهر هذه الأنواع:

البقلاوة بالفستق: وهي ربما الأكثر شهرة وانتشارًا. تتميز بلونها الأخضر الزاهي الناتج عن الفستق الحلبي، وتُعرف بقرمشتها الغنية ونكهتها المميزة. غالبًا ما تُزين بحبات الفستق الكاملة أو المجروشة.

البقلاوة بالجوز: تُعد خيارًا مفضلاً للكثيرين، حيث يتميز الجوز بطعمه الغني والمائل إلى المرارة قليلاً، مما يُحدث توازنًا رائعًا مع حلاوة القطر. وغالبًا ما تُخلط مع القرفة والسكر لتعزيز النكهة.

البقلاوة المشكلة: تجمع بين أنواع مختلفة من المكسرات، مثل الفستق والجوز واللوز، في قطعة واحدة، مما يوفر تجربة غنية ومتنوعة في كل قضمة.

الكنافة: على الرغم من اختلافها الواضح في المكونات وطريقة التحضير، إلا أن الكنافة تُعتبر من الحلويات الشامية الشهيرة التي تشارك البقلاوة في مكانتها. تتكون الكنافة من خيوط عجين رفيعة جدًا (الشعيرية) أو عجين سميك (الكنافة المبرومة)، وتُحشى بالجبن العكاوي أو النابلسي، وتُشرب بالقطر. ورغم أن اسمها لا يتكون من 5 حروف، إلا أنها تُعد من الحلويات الشامية التي لا تقل شهرة وأهمية عن البقلاوة.

البقلاوة المدلوقة: وهي نوع مميز من البقلاوة، تُصنع من عجينة مختلفة عن الفيللو التقليدية، وتُحشى بالمكسرات وتُشرب بالقطر، وتتميز بقوامها الطري نسبيًا.

البقلاوة الملفوفة: تُصنع من رقائق الفيللو التي تُلف حول حشوة المكسرات، وغالبًا ما تُقطع إلى قطع صغيرة بعد الخبز.

البقلاوة الشامية: رمز للكرم والاحتفاء

لا تقتصر أهمية البقلاوة على كونها مجرد حلوى لذيذة، بل تتجاوز ذلك لتكون رمزًا للكرم والضيافة في الثقافة الشامية. ففي المناسبات السعيدة، كالأعراس والأعياد، لا تخلو الموائد من طبق البقلاوة الفاخر. إن تقديم طبق مليء بالبقلاوة الملونة والمتنوعة يعكس حفاوة الاستقبال ورغبة المضيف في إسعاد ضيوفه.

تُعد البقلاوة أيضًا جزءًا لا يتجزأ من طقوس الشاي والقهوة في بلاد الشام. فبعد تناول وجبة دسمة، يُقدم فنجان من القهوة العربية أو الشاي مع قطعة من البقلاوة، لتكون بمثابة خاتمة شهية ومنعشة لليوم.

التحديات التي تواجه صناعة الحلويات الشامية

على الرغم من عراقة الحلويات الشامية وشعبيتها الواسعة، إلا أن صناعتها تواجه بعض التحديات في العصر الحديث. من أبرز هذه التحديات:

الحاجة إلى مهارات يدوية دقيقة: تتطلب صناعة البقلاوة وغيرها من الحلويات الشامية خبرة ومهارة يدوية لا يمكن تعويضها بالآلات بشكل كامل. قد يؤدي قلة تدريب الأجيال الشابة على هذه الحرف اليدوية إلى تراجع في أعداد الحرفيين المهرة.

ارتفاع أسعار المكونات: تعتمد الحلويات الشامية على مكونات عالية الجودة، مثل الفستق الحلبي والزبدة الطبيعية. وقد يؤدي ارتفاع أسعار هذه المكونات إلى زيادة تكلفة الإنتاج، مما يؤثر على أسعار المنتج النهائي.

المنافسة مع الحلويات الحديثة: مع انتشار أنواع جديدة من الحلويات التي تتميز بسهولة التحضير وتنوع النكهات، قد تواجه الحلويات الشامية التقليدية منافسة قوية.

الحفاظ على الأصالة والجودة: في ظل الرغبة في تلبية الطلب المتزايد، قد يقع بعض المنتجين في فخ استخدام مكونات أقل جودة أو تبسيط طرق التحضير، مما يؤثر على الأصالة والجودة التي تميز الحلويات الشامية.

البقلاوة في العالم: سفيرة النكهة الشامية

لم تعد البقلاوة مجرد حلوى محلية، بل أصبحت سفيرة للنكهة الشامية في مختلف أنحاء العالم. فقد انتشرت محلات الحلويات الشامية في العديد من المدن الكبرى، مقدمةً للعالم هذه التحف الفنية اللذيذة. وقد ساهمت هذه الانتشار في تعريف الشعوب الأخرى على ثقافة المطبخ الشامي الغني والمتنوع.

يُقبل السياح والزوار على شراء البقلاوة الشامية كهدايا تذكارية، حاملين معهم طعم الأصالة وعبق الشرق. كما أصبحت البقلاوة عنصرًا أساسيًا في قوائم الطعام في المطاعم العربية حول العالم.

كلمة السر: “البقلاوة” وما وراءها

إذن، “كلمة السر هي حلويات شامية مشهورة مكونة من 5 حروف” تقودنا إلى “البقلاوة”، هذه الأيقونة الشامية التي تجسد فنًا عريقًا وتاريخًا غنيًا. لكنها ليست مجرد حلوى، بل هي قصة عن الصبر والدقة، وعن الكرم والاحتفاء، وعن ثقافة تتوارثها الأجيال.

البقلاوة هي تذكير دائم بأن أبسط المكونات، عندما تُعامل بالحب والمهارة، يمكن أن تتحول إلى تجربة حسية لا تُنسى. إنها رحلة عبر الزمن، ونكهة تعبر الحدود، وتراث يستحق الاحتفاء به.

عندما نتذوق قطعة من البقلاوة الشامية، فإننا لا نتذوق فقط طبقات العجين الهشة والمكسرات الغنية والقطر الحلو، بل نتذوق أيضًا تاريخًا طويلًا، وجهد صانع ماهر، وروح كرم أصيلة. إنها دعوة للاستمتاع بتراث غني، والاحتفاء بفن لا يزال يبهج القلوب ويسعد الأذواق.