رحلة عبر عبق التاريخ وحلاوة الشرق: استكشاف أنواع الحلويات الشرقية
تُعد الحلويات الشرقية كنزاً لا ينضب من النكهات الغنية والتاريخ العريق، فهي ليست مجرد أطعمة لذيذة، بل هي تجسيد للثقافة والضيافة، ورمز للفرح والاحتفال في مجتمعات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. من طبقات العجين الهشة التي تذوب في الفم، إلى القطر السكري الذي يغلفها، وصولاً إلى المكسرات المبهرة التي تزينها، كل قطعة حلوى شرقية تحكي قصة، وتنقلنا في رحلة عبر الزمن والمذاقات. إن عالم الحلويات الشرقية واسع ومتنوع، يضم تحت مظلته إرثاً طويلاً من الوصفات المتوارثة جيلاً بعد جيل، والتي تطورت وتكيفت لتلبي الأذواق المختلفة، مع الحفاظ على جوهرها الأصيل.
تتميز هذه الحلويات بثرائها بالمكونات الطبيعية الطازجة، واعتمادها على تقنيات تحضير دقيقة تتطلب مهارة وصبرًا. غالباً ما تُستخدم فيها مكونات مثل السميد، الدقيق، السكر، العسل، المكسرات (كالفستق، الجوز، اللوز)، الزبدة والسمن، وماء الزهر أو ماء الورد لإضفاء نكهة عطرية مميزة. إن مزيج هذه المكونات البسيطة يخلق تحفاً فنية غذائية، تُبهج العين والروح قبل أن تُرضي البطن.
القطر: سر الحلاوة والتماسك
لعل القطر أو الشيرة هو أحد أهم الأعمدة التي تقوم عليها معظم الحلويات الشرقية. هو عبارة عن مزيج من السكر والماء، يُغلى حتى يصل إلى درجة الكثافة المطلوبة، وغالباً ما يُضاف إليه عصير الليمون لمنع التبلور، وماء الزهر أو ماء الورد لإضفاء عبير رقيق. تختلف درجة حلاوة وكثافة القطر حسب نوع الحلوى؛ فبعضها يتطلب قطراً خفيفاً يسمح للعجينة بامتصاصه بسهولة، بينما يتطلب البعض الآخر قطراً أسمك ليمنح الحلوى قواماً متماسكاً ولمعاناً جذاباً. إن إتقان تحضير القطر هو فن بحد ذاته، ويتطلب خبرة لتجنب أن يكون خفيفاً جداً فيفسد قوام الحلوى، أو ثقيلاً جداً فيجعلها سكرية بشكل مفرط.
أشهر أنواع الحلويات الشرقية: رحلة تفصيلية
تتنوع الحلويات الشرقية بتنوع المناطق والثقافات التي نشأت فيها، ولكل منها سحرها الخاص وقصتها المميزة. دعونا نغوص في أعماق هذا العالم الشهي ونستكشف أبرز أنواعه:
1. البقلاوة: ملكة الحلويات الشرقية
لا يمكن الحديث عن الحلويات الشرقية دون ذكر البقلاوة، تلك التحفة الفنية التي تجمع بين هشاشة طبقات العجين الرقيقة وحشو المكسرات الشهي، وغمرها بالقطر السكري. تُعد البقلاوة واحدة من أكثر الحلويات انتشاراً وشهرة على مستوى العالم العربي وخارجه.
أصل البقلاوة وتاريخها
يعود أصل البقلاوة إلى العصور القديمة، حيث يُعتقد أن أصولها تعود إلى بلاد ما بين النهرين أو الإمبراطورية البيزنطية. ومع انتشار الإمبراطورية العثمانية، انتشرت البقلاوة في جميع أنحاء الإمبراطورية، بما في ذلك منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث اكتسبت تنوعاتها الخاصة.
أنواع البقلاوة الشهيرة
البقلاوة بالفستق: غالباً ما تكون الخيار الأكثر فخامة، حيث يُستخدم فيها الفستق الحلبي الأخضر الزاهي كحشو أساسي. تتميز بلونها الأخضر الجذاب وطعمها الغني.
البقلاوة بالجوز: تُعد خياراً شائعاً واقتصادياً، حيث يُستخدم الجوز المفروم كحشو، وغالباً ما يُضاف إليه القرفة والسكر.
البقلاوة المشكلة: تجمع بين أنواع مختلفة من المكسرات، أو تأتي بأشكال متنوعة مثل أصابع البقلاوة، البقلاوة الملفوفة، أو البقلاوة المربعة.
البقلاوة بالشوكولاتة: وهي إضافة حديثة نسبياً، حيث يُضاف إليها مسحوق الكاكاو أو قطع الشوكولاتة إلى الحشو، مما يمنحها نكهة مختلفة ومحبوبة لدى الكثيرين.
طريقة التحضير الأساسية
تتكون البقلاوة من طبقات رقيقة جداً من عجينة الفيلو (أو عجينة الكلاج)، تُدهن كل طبقة بالزبدة المذابة أو السمن. يُوضع الحشو في المنتصف، ثم تُغلق العجينة وتُقطع إلى قطع صغيرة. تُخبز حتى يصبح لونها ذهبياً ثم تُسقى بالقطر البارد أو الفاتر.
2. الكنافة: فتنة الخيوط الذهبية
تُعد الكنافة من الحلويات التي تتميز بقوامها الفريد، فهي تجمع بين قرمشة الخيوط الذهبية الناعمة أو العجين المفتت، وحشوتها الكريمية أو الجبن الذائب، وغمرها بالقطر. تُعتبر الكنافة طبقاً أساسياً في المناسبات والاحتفالات، خاصة في شهر رمضان.
أصول الكنافة وتنوعاتها
تُنسب أصول الكنافة إلى العصور الفاطمية، حيث كانت تُقدم في شهر رمضان. تختلف الكنافة بشكل كبير من منطقة لأخرى، مما يعكس التنوع الثقافي الغني للمنطقة.
أشهر أنواع الكنافة
الكنافة النابلسية: ربما تكون هي الأشهر عالمياً. تتميز بخيوطها الرقيقة جداً، وحشوتها الغنية بالجبن العكاوي أو النابلسي غير المملح، وتُزين بالفستق الحلبي. تُقدم ساخنة وطازجة.
الكنافة الخشنة (أو الشعيرية): تُصنع من عجينة الكنافة الخشنة المفتتة، وتُحشى عادة بالجبن أو القشطة.
الكنافة الناعمة: تُصنع من عجينة كنافة ناعمة جداً، وتُحشى غالباً بالقشطة أو الكريمة.
الكنافة بالقشطة: تُعد من الأنواع المحبوبة، حيث تُوضع طبقة من القشطة السميكة بين طبقتي عجينة الكنافة.
الكنافة المبرومة: تُشبه الكنافة النابلسية، ولكنها تُلف على شكل أسطواني قبل الخبز.
سر نجاح الكنافة
يكمن سر نجاح الكنافة في استخدام نوعية جيدة من الجبن القابل للذوبان وغير المملح (مثل جبن العكاوي أو نابلسي)، وفي تحميرها بشكل متساوٍ حتى يصبح لونها ذهبياً محمراً، ثم سقيها بالقطر فور خروجها من الفرن.
3. القطايف: ضيافة الشهر الفضيل
تُعد القطايف من الحلويات الرمضانية بامتياز، فهي تُشتهر بمذاقها الفريد وقوامها الذي يجمع بين طراوة العجينة وقرمشة الحشو بعد القلي أو الخبز. تُقدم القطايف عادة محشوة بالقشطة أو المكسرات، ثم تُغمر بالقطر.
أنواع القطايف
القطايف بالقشطة: وهي الأكثر شيوعاً، حيث تُحشى بخليط من القشطة الطازجة أو قشطة الحليب، وغالباً ما تُضاف إليها ماء الزهر.
القطايف بالمكسرات: تُحشى بخليط من الجوز أو الفستق المطحون، مع السكر والقرفة وماء الورد.
القطايف بالجبنة: وهي أقل شيوعاً، ولكنها موجودة في بعض المناطق، وتُستخدم فيها أنواع من الجبن الحلو.
طريقة تحضير القطايف
تُصنع عجينة القطايف من مزيج الدقيق والخميرة والماء، وتُخبز على صاج أو مقلاة خاصة لتعطيها شكلها الدائري المميز، مع فقاعات هوائية تظهر على سطحها. بعد أن تبرد، تُحشى ثم تُغلق بشكل نصف دائري، وتُقلى في الزيت أو تُخبز في الفرن، ثم تُسقى بالقطر.
4. الهريسة (البسبوسة): سيمفونية السميد والعسل
الهريسة، أو البسبوسة كما تُعرف في بعض المناطق، هي حلوى من السميد غالباً ما تُزين بالمكسرات وتُشرب بالقطر. تتميز بقوامها المتماسك قليلاً، ومذاقها الغني الذي يجمع بين حلاوة العسل والسميد.
مكونات الهريسة الأساسية
تتكون الهريسة بشكل أساسي من السميد، السكر، الزبدة أو السمن، والحليب أو اللبن. غالباً ما تُضاف إليها جوز الهند المبشور لإضافة نكهة وقوام مميز.
أنواع الهريسة
الهريسة التقليدية: تُصنع من السميد الخشن أو الناعم، وتُخبز حتى يصبح لونها ذهبياً، ثم تُسقى بالقطر وهي ساخنة.
الهريسة بجوز الهند: يُضاف جوز الهند المبشور إلى خليط السميد، مما يعطيها نكهة مميزة وقواماً إضافياً.
الهريسة بالزبادي: يُستخدم الزبادي بدلاً من الحليب، مما يمنحها طراوة إضافية.
الهريسة بالفواكه: في بعض الأحيان، تُضاف الفواكه المجففة مثل المشمش أو التين المفروم إلى الهريسة.
سر القوام المثالي
يكمن سر الهريسة اللذيذة في استخدام نسبة مناسبة من السميد والدهون، وفي سقيها بالقطر البارد أو الفاتر وهي ساخنة، مما يسمح لها بامتصاص القطر بشكل كامل دون أن تصبح طرية جداً.
5. بلح الشام: قمع ذهبي مقرمش
بلح الشام هو حلوى مقلية مصنوعة من عجينة الشو (عجينة الماء والزبدة والدقيق)، تُشكل على هيئة أصابع أو قمع، وتُقلى في الزيت حتى تصبح ذهبية ومقرمشة، ثم تُغمر في القطر.
مميزات بلح الشام
يتميز بلح الشام بقرمشته الخارجية وطراوته الداخلية، بالإضافة إلى امتصاصه الممتاز للقطر الذي يمنحه حلاوة لذيذة. غالباً ما يُضاف ماء الزهر أو ماء الورد إلى القطر لتعزيز النكهة.
أنواع بلح الشام
بلح الشام العادي: يُقلى ويُسقى بالقطر.
بلح الشام بالشوكولاتة: تُغطى بعض قطع بلح الشام بالشوكولاتة المذابة بعد سقيها بالقطر.
بلح الشام بالكريمة: تُحشى بعض القطع بالكريمة أو القشطة بعد أن تبرد.
السر في القرمشة
للحصول على بلح شام مقرمش، يجب أن تكون العجينة مطهوة جيداً على النار قبل إضافة البيض، وأن يُقلى في زيت غزير على درجة حرارة متوسطة، ثم يُغمر فوراً في القطر البارد.
6. الغريبة: هشاشة تذوب في الفم
تُعد الغريبة من الحلويات الشرقية البسيطة والهشة، والتي تعتمد بشكل أساسي على مزيج الدقيق والزبدة أو السمن. تُعرف باسم “غريبة” لأنها غالباً ما تكون سهلة التحضير وتتطلب مكونات قليلة، ولكن مذاقها لا يُقاوم.
أنواع الغريبة
الغريبة البيضاء: وهي الشكل التقليدي، تُصنع من الدقيق والسمن والسكر، وتُخبز حتى تتماسك دون أن يتغير لونها كثيراً.
الغريبة بالسميد: يُضاف السميد إلى خليط الدقيق، مما يعطيها قواماً مختلفاً قليلاً.
الغريبة باللوز أو الفستق: تُزين بقطعة من اللوز أو الفستق الحلبي قبل الخبز.
سر الهشاشة
يكمن سر هشاشة الغريبة في نسبة الدهون العالية إلى الدقيق، وفي عدم عجن العجينة كثيراً بعد إضافة الدقيق، فقط تجميعها لتجنب تكون الغلوتين الذي يجعلها قاسية.
7. المعمول: فن التمر والمكسرات
المعمول هو حلوى تقليدية تُصنع غالباً في الأعياد والمناسبات الخاصة، وخاصة في عيد الفطر. يتميز المعمول بعجينة هشة محشوة بالتمر أو المكسرات (الجوز، الفستق، اللوز)، ويُشكل باستخدام قوالب خشبية مزخرفة.
أنواع المعمول
المعمول بالتمر: وهو النوع الأكثر شيوعاً، حيث تُحشى العجينة بخليط من التمر المعجون مع الزبدة والقرفة والهيل.
المعمول بالجوز: يُحشى بخليط من الجوز المفروم مع السكر والقرفة.
المعمول بالفستق: يُحشى بالفستق الحلبي المطحون مع السكر وماء الورد.
تزيين المعمول
تُستخدم قوالب خشبية خاصة لنقش المعمول وإعطائه أشكالاً وزخارف جميلة، مما يجعله قطعة فنية شهية. يُقدم المعمول عادة مرشوشاً بالسكر البودرة، أو يُترك على طبيعته.
8. لقيمات (عوامات): كرات ذهبية مقرمشة
اللقيمات، أو العوامات كما تُعرف في بعض المناطق، هي كرات صغيرة من العجين تُقلى في الزيت حتى تنتفخ وتصبح مقرمشة، ثم تُغمر في القطر أو تُزين بالعسل أو دبس التمر.
مكونات اللقيمات
تُصنع عجينة اللقيمات من الدقيق، الخميرة، والماء، وغالباً ما يُضاف إليها قليل من النشا أو الزبادي لزيادة القرمشة.
سر القرمشة والانتفاخ
يُعد الزيت الساخن والقلي المتكرر من العوامل المهمة للحصول على لقيمات مقرمشة ومنتفخة. بعض الوصفات تضيف كمية قليلة من الخل أو الليمون إلى العجينة لزيادة القرمشة.
9. المدلوقة: قوام مخملي بنكهة الورد
المدلوقة هي حلوى شرق أوسطية تتميز بقوامها الناعم والمخملي، وغالباً ما تُصنع من عجينة القشطة أو الكريمة، وتُزين بالمكسرات وتُسقى بالقطر.
مكونات المدلوقة
تُصنع المدلوقة عادة من خليط القشطة مع السميد أو الدقيق، مع إضافة ماء الورد أو ماء الزهر لإضفاء نكهة عطرية.
طريقة تقديم المدلوقة
تُقدم المدلوقة باردة، وغالباً ما تُزين بالفستق الحلبي المطحون أو المكسرات الأخرى.
10. المشبك: شبكة سكرية مقرمشة
المشبك هو حلوى شرقية مقلية تُصنع من عجينة خاصة تُشكل على هيئة شبكات أو دوامات، ثم تُقلى وتُغمر في القطر.
مميزات المشبك
يتميز المشبك بقرمشته العالية، وشكله الجذاب الذي يشبه الشبكة، وحلاوته الغنية التي يمنحها إياه القطر.
سر التشكيل
يُستخدم قمع خاص لسكب العجينة في الزيت على شكل دوائر متداخلة، مما يعطيها شكلها المميز.
خاتمة: إرث حلو يستمر
إن عالم الحلويات الشرقية هو عالم واسع ومليء بالنكهات والتفاصيل التي لا تنتهي. كل قطعة حلوى تحمل في طياتها قصة، وتستدعي ذكريات، وتجسد روح الكرم والضيافة. سواء كنت تفضل قرمشة البقلاوة، أو طراوة الكنافة، أو هشاشة الغريبة، فإن هذه الحلويات تقدم تجربة فريدة للحواس، وتُعد شهادة على غنى وتنوع المطبخ الشرقي. إن الاستمتاع بهذه الحلويات ليس مجرد تناول للطعام، بل هو احتفاء بالتقاليد، وتقدير للفن، وتجربة حسية لا تُنسى.
