طريقة اللحوح الحبشي ام يزيد: رحلة عبر التاريخ والنكهات

يعتبر اللحوح الحبشي، والمعروف أيضاً بـ “ام يزيد” في بعض المناطق، ليس مجرد طبق تقليدي، بل هو جزء لا يتجزأ من الهوية الثقافية والتاريخية للشعوب التي تتناوله، خاصة في القرن الأفريقي. إنه يمثل قصة عن الصبر، والإبداع في استخدام الموارد المتاحة، والاحتفاء بالمناسبات الاجتماعية والدينية. تتجاوز وصفة اللحوح مجرد مكونات وطريقة تحضير، لتصل إلى فن متوارث عبر الأجيال، يحمل في طياته عبق الماضي وروح الحاضر.

أصول اللحوح: جذور ضاربة في التاريخ

لا يمكن الحديث عن اللحوح دون الغوص في أعماقه التاريخية. تشير الدراسات إلى أن أصوله تعود إلى قرون عديدة مضت، حيث كان وسيلة أساسية لتخزين الحبوب وتحويلها إلى طعام مغذٍ وسهل الهضم. كانت المجتمعات القديمة، التي تعتمد بشكل كبير على الزراعة، تبحث دائماً عن طرق مبتكرة للاستفادة القصوى من محاصيلها، وخاصة حبوب التيف (Teff)، وهي حبوب صغيرة تشبه الكينوا وتعتبر العنصر الأساسي في المطبخ الحبشي.

عملية التخمير، التي تعتبر جوهر تحضير اللحوح، لم تكن مجرد تقنية لإنتاج طعام لذيذ، بل كانت أيضاً وسيلة طبيعية لحفظه وإكسابه خصائص غذائية محسنة. كانت هذه العملية تتطلب وقتاً وجهداً، مما يعكس صبر ودأب الأمهات والجدات اللواتي كن يقمن بإعداد اللحوح في المنازل.

مكونات اللحوح: سيمفونية من النكهات والفوائد

تتكون الوصفة الأساسية للحوح الحبشي من مكونين رئيسيين: دقيق التيف والماء. لكن سر النكهة الفريدة والقوام الهش يكمن في عملية التخمير الطويلة التي يمر بها هذا الخليط.

دقيق التيف (Teff Flour): هو نجم الطبق بلا منازع. حبوب التيف، التي تنمو بكثرة في إثيوبيا وإريتريا، تتميز بحجمها الصغير جداً ولونها الذي يتراوح بين الأبيض والبني الداكن. وهي غنية بالعناصر الغذائية مثل الحديد، الكالسيوم، البروتينات، والألياف. استخدام دقيق التيف يعطي اللحوح نكهته المميزة، التي توصف بأنها حامضة قليلاً، مع لمسة ترابية.
الماء: يلعب الماء دوراً حاسماً في ترطيب الدقيق وتسهيل عملية التخمير. كمية الماء المستخدمة تؤثر بشكل مباشر على قوام العجينة النهائية.
الملح: يضاف الملح لتعزيز النكهة وتحسين عملية التخمير.
مكونات إضافية (اختياري): في بعض الأحيان، قد تضاف مكونات أخرى لإضفاء نكهة إضافية أو لتسريع عملية التخمير، مثل قليل من العسل أو السكر.

عملية التخمير: سر التحول السحري

تعتبر عملية التخمير هي القلب النابض لإنتاج اللحوح. تبدأ هذه العملية بخلط دقيق التيف مع الماء لعمل عجينة سائلة. تترك هذه العجينة لتتخمر في مكان دافئ لمدة تتراوح بين يومين إلى سبعة أيام، وأحياناً أكثر. خلال هذه الفترة، تبدأ الكائنات الدقيقة الموجودة في الدقيق والبيئة المحيطة بالتفاعل مع السكريات الموجودة في الدقيق، مما ينتج عنه غازات (تمنح اللحوح قوامه الإسفنجي) وحمض اللاكتيك (الذي يمنحه نكهته الحامضة المميزة).

هذه العملية تتطلب رعاية واهتماماً. يجب مراقبة العجينة والتأكد من أنها تتخمر بشكل صحيح. في بعض الأحيان، قد تحتاج العجينة إلى “تنشيط” بإضافة القليل من العجينة المخمرة سابقاً أو مزيج من الخميرة الفورية والماء الدافئ، خاصة في المناخات الباردة أو عندما يكون الوقت ضيقاً.

طريقة التحضير: فن الخبز على الصاج

بعد اكتمال عملية التخمير، تصبح العجينة جاهزة للخبز. يتم خبز اللحوح على صاج دائري مسطح وكبير، يسمى “مِطَاط” (Mitad) في اللغة الأمهرية. هذا الصاج، الذي كان تقليدياً مصنوعاً من الطين أو المعدن، يسخن على نار هادئة، سواء كانت نار حطب تقليدية أو موقد حديث.

خطوات الخبز:

1. تسخين الصاج: يتم تسخين الصاج بشكل متساوٍ.
2. صب العجينة: تُصب كمية قليلة من العجينة السائلة على الصاج الساخن.
3. فرد العجينة: تُدار العجينة بسرعة وبحركة دائرية لتغطي سطح الصاج بالكامل وتكوّن طبقة رقيقة ومتساوية.
4. الخبز: يُترك اللحوح لينضج لبضع دقائق. لا يحتاج اللحوح إلى قلبه، حيث ينضج من الحرارة المتصاعدة من الصاج.
5. الرفع: عندما تظهر فقاعات على سطح اللحوح ويتحول لونه إلى الذهبي، يصبح جاهزاً للرفع.

النتيجة النهائية هي قرص دائري رقيق، يشبه البان كيك أو الكريب، ذو نسيج إسفنجي مثقوب، وحواف مقرمشة قليلاً، ونكهة لاذعة مميزة.

“ام يزيد”: لمسة إقليمية ومعنى أعمق

عبارة “ام يزيد” (Um Yazed) التي تطلق على اللحوح في بعض المناطق، وخاصة في السودان، تحمل في طياتها معنى خاصاً. غالباً ما ترتبط هذه التسمية بـ “يزيد”، وهو اسم شائع، وقد تكون تعبيراً عن ارتباط اللحوح بالمناسبات الاجتماعية أو العائلية، حيث قد يكون هذا الطبق جزءاً من وليمة أو احتفال. قد تشير أيضاً إلى شخصية محددة اشتهرت بإعداد هذا النوع من اللحوح، أو إلى طريقة معينة في إعداده أصبحت علامة فارقة.

بغض النظر عن أصل التسمية الدقيق، فإنها تضفي على اللحوح بعداً إنسانياً واجتماعياً، وتجعله أكثر من مجرد طعام، بل رمزاً للكرم والضيافة والتواصل.

اللحوح على المائدة: رفيق الوجبات المتعدد

يعتبر اللحوح عنصراً أساسياً في المطبخ الحبشي والإريتري، ويقدم عادة كطبق رئيسي أو كطبق جانبي في وجبات الإفطار والغداء والعشاء. غالباً ما يتم تقديمه مع مجموعة متنوعة من الأطباق الجانبية، سواء كانت لحوماً مطهوة، أو خضروات متبلة، أو حساء غني.

مع الوجبات التقليدية (Wot): يُستخدم اللحوح كأداة لتناول الأطباق التقليدية المعروفة بـ “ووت” (Wot)، وهي عبارة عن يخنات غنية مصنوعة من اللحم أو الدجاج أو الخضروات، متبلة بمزيج من البهارات مثل البربر (Berbere) وهو مزيج حار ولذيذ. يتم تقطيع قطعة من اللحوح وتستخدم لغرف الـ “ووت” وتناولها.
وجبة إفطار: يمكن تناول اللحوح مع العسل أو الزبدة المذابة كوجبة إفطار خفيفة ومشبعة.
مع الحساء: يُقدم أحياناً مع أنواع مختلفة من الحساء.
طبق نباتي: يمكن الاستمتاع باللحوح كطبق نباتي بحد ذاته، أو مع أطباق جانبية نباتية.

التنوع في التقديم: لمسات إبداعية

لا يقتصر الأمر على الأطباق التقليدية. فمع انفتاح الثقافات وتطور فنون الطهي، بدأ الناس في استكشاف طرق جديدة لتقديم اللحوح. يمكن استخدامه كقاعدة للسندويشات، أو كبديل للخبز في وجبات الإفطار، أو حتى كعنصر في أطباق أكثر ابتكاراً.

الفوائد الصحية للحوح: غذاء ودواء

لا يقتصر تميز اللحوح على طعمه الفريد وقيمته الثقافية، بل يمتد ليشمل فوائده الصحية العديدة، ويرجع الفضل في ذلك بشكل أساسي إلى المكون الأساسي، وهو حبوب التيف.

غني بالحديد: يعتبر اللحوح مصدراً ممتازاً للحديد، مما يجعله مهماً بشكل خاص للنساء والأشخاص الذين يعانون من فقر الدم.
مصدر جيد للكالسيوم: يساهم في صحة العظام والأسنان.
غني بالبروتينات: يوفر الأحماض الأمينية الأساسية اللازمة لبناء وإصلاح الأنسجة.
مصدر للألياف: يساعد على تحسين الهضم، وتنظيم مستويات السكر في الدم، وتعزيز الشعور بالشبع.
خالٍ من الغلوتين: يعتبر بديلاً رائعاً للأشخاص الذين يعانون من حساسية الغلوتين أو مرض السيلياك.
سهل الهضم: عملية التخمير تجعل العناصر الغذائية في التيف أكثر قابلية للامتصاص، كما أنها تسهل هضمه.

التحديات والابتكارات: الحفاظ على التراث في العصر الحديث

يواجه إعداد اللحوح التقليدي بعض التحديات في العصر الحديث. عملية التخمير الطويلة تتطلب وقتاً وصبراً قد لا يتوفر لدى الكثيرين. كما أن الحصول على دقيق التيف عالي الجودة قد يكون صعباً في بعض المناطق خارج نطاق انتشاره التقليدي.

ومع ذلك، يسعى العديد من الطهاة والمهتمين بالحفاظ على التراث إلى إيجاد حلول مبتكرة. هناك محاولات لتطوير وصفات سريعة أو استخدام تقنيات حديثة لتسريع عملية التخمير دون التأثير على النكهة والجودة. كما أن انتشار المهاجرين من مناطق القرن الأفريقي ساهم في نشر ثقافة اللحوح عالمياً، مما أدى إلى توفر دقيق التيف في العديد من الأسواق الدولية.

الخلاصة: أكثر من مجرد طبق، هو قصة حياة

في الختام، يمثل اللحوح الحبشي “ام يزيد” قصة نجاح ثقافية غذائية. إنه شهادة على براعة الإنسان في استخدام الطبيعة لإنتاج طعام مغذٍ ولذيذ. من حقول التيف الخضراء في إثيوبيا إلى موائد العشاء في مختلف أنحاء العالم، يحمل اللحوح في طياته عبق التاريخ، ونكهة الأصالة، وروح المجتمعات التي تحتفي به. هو ليس مجرد خبز، بل هو فن، وتراث، ورمز للتواصل والتلاحم.