فن الجليز: رحلة في عالم الزخرفة اللامعة

الجليز، تلك الطبقة الزجاجية المتلألئة التي تزين الأواني الفخارية والخزفية، ليست مجرد لمسة جمالية فحسب، بل هي عملية تقنية معقدة تجمع بين العلم والفن. إنها ما يمنح القطع الخزفية متانتها، مقاومتها للسوائل، وجمالها الأخاذ الذي يسر الناظرين. في هذا المقال، سنتعمق في عالم الجليز، نستكشف مكوناته الأساسية، خطوات تطبيقه، وراء الأسرار التي تجعل منه عنصراً حيوياً في صناعة الخزف.

ما هو الجليز؟ فهم المفهوم الأساسي

في جوهره، الجليز هو عبارة عن سائل زجاجي يتم تطبيقه على سطح القطع الخزفية قبل أو أثناء عملية الحرق في الفرن. عند تعرضه لدرجات حرارة عالية، ينصهر هذا السائل الزجاجي ليشكل طبقة صلبة، غير منفذة، ولامعة أو غير لامعة حسب تركيبة الجليز. هذه الطبقة ليست مجرد طلاء، بل هي جزء لا يتجزأ من القطعة الخزفية، تتحد معها لتشكل كلاً واحداً.

المكونات الأساسية للجليز: سيمفونية من العناصر

يتكون الجليز من مزيج دقيق من عدة مكونات رئيسية، لكل منها دور حيوي في تحقيق النتائج المرجوة:

1. مكونات تشكيل الزجاج (Fluxes): مفتاح الانصهار

هذه المكونات هي المسؤولة عن خفض درجة حرارة انصهار السيليكا، مما يسمح بتكوين الزجاج. بدونها، ستحتاج السيليكا إلى درجات حرارة عالية جداً لتنصهر، وهو أمر غير عملي في معظم أفران الخزف. من أبرز هذه المكونات:

أكاسيد المعادن القلوية: مثل أكسيد الصوديوم (Na₂O) وأكسيد البوتاسيوم (K₂O). توجد غالباً في مواد طبيعية مثل الفلدسبار.
أكاسيد المعادن القلوية الترابية: مثل أكسيد الكالسيوم (CaO) وأكسيد المغنيسيوم (MgO) وأكسيد الباريوم (BaO). توجد في مواد مثل الدولوميت والطلخ.
أكسيد الرصاص (PbO): كان يستخدم بكثرة في الماضي نظراً لقدرته العالية على خفض درجة الانصهار، لكن استخدامه أصبح محدوداً بسبب سميته.
أكسيد البورون (B₂O₃): يوجد في البوراكس، وهو مكون فعال جداً في خفض درجة الانصهار ويساهم في استقرار الجليز.

2. مكونات تشكيل الشبكة الزجاجية (Glass Formers): العظام الهيكلية

العنصر الأساسي هنا هو السيليكا (SiO₂)، وهي المكون الرئيسي للرمل. تعمل السيليكا كشبكة هيكلية للجليز، حيث تتشابك جزيئاتها لتشكل بنية ثلاثية الأبعاد عند الانصهار. كلما زادت نسبة السيليكا، زادت صلابة الزجاج المتكون.

3. مكونات التعكير والتعتيم (Opacifiers): التحكم في الشفافية

إذا كان الهدف الحصول على جليز غير شفاف، يتم إضافة مواد تعكير. هذه المواد إما أن تترسب على شكل بلورات صغيرة داخل الزجاج، أو تتفاعل معه بطريقة تجعله يبدو معتماً. من أمثلة هذه المواد:

أكسيد القصدير (SnO₂): يعتبر من أقدم وأكثر المواد فعالية في تعتيم الجليز، ويعطي لوناً أبيض ناصعاً.
أكسيد التيتانيوم (TiO₂): يستخدم أيضاً لتعكير الجليز، وغالباً ما يعطي لوناً أبيض مائلاً إلى الكريمي.
أكسيد الزركونيوم (ZrO₂): يعطي تعكيراً قوياً ويساهم في استقرار الجليز.
الفلدسبار: يمكن أن يساهم في التعكير عند استخدامه بنسب عالية.

4. الملونات (Colorants): لمسات فنية من المعادن

لإضفاء الألوان على الجليز، يتم إضافة كميات صغيرة من أكاسيد المعادن. تختلف الألوان الناتجة بشكل كبير حسب نوع المعدن، وكميته، وظروف الحرق (درجة الحرارة، وجود الأكسجين أو غيابه). بعض الأمثلة الشائعة:

أكسيد الحديد (Fe₂O₃): يعطي درجات اللون البني والأحمر والأصفر، ويتحول إلى اللون الأخضر في ظروف مختزلة.
أكسيد النحاس (CuO): يعطي درجات اللون الأزرق والأخضر، ويمكن أن يتحول إلى لون أحمر مذهل (مثل لون دم الغزال) في ظروف مختزلة.
أكسيد الكوبالت (CoO): يعطي اللون الأزرق العميق والمميز.
أكسيد المنجنيز (MnO₂): يعطي درجات اللون البني والأرجواني.
أكسيد الكروم (Cr₂O₃): يعطي اللون الأخضر.

5. المواد المخففة (Diluents) والمواد المعلقة (Suspending Agents): تحقيق القوام المثالي

هذه المواد لا تدخل في التفاعل الكيميائي الرئيسي للجليز، لكنها ضرورية لتحسين خصائصه الفيزيائية أثناء التطبيق:

الطين (Clay): غالباً ما يضاف طين الكاولين (Kaolin) بكميات صغيرة. يعمل الكاولين كمخفف، مما يمنع الجليز من الانفصال، وكمادة معلقة تساعد على بقاء الجزيئات الصلبة معلقة في السائل، ويساهم أيضاً في قوة القطعة قبل الحرق.
البنتونيت (Bentonite): طين آخر يستخدم كمادة معلقة قوية، ويساعد على زيادة لزوجة الجليز.
صمغ الغوار (Guar Gum) أو CMC (Carboxymethyl Cellulose): مواد عضوية تعمل كمكثفات قوية، مما يحسن من التصاق الجليز بالقطعة ويمنع التقطر.

عملية تحضير الجليز: من المكونات إلى السائل السحري

تحضير الجليز ليس مجرد خلط للمكونات، بل هو عملية دقيقة تتطلب وزناً دقيقاً لهذه المكونات، ثم طحنها جيداً، وخلطها بالماء.

1. الوزن الدقيق: أساس التركيبة الناجحة

يتم وزن كل مكون من مكونات الجليز بدقة باستخدام ميزان حساس. أي اختلاف في نسب المكونات يمكن أن يؤثر بشكل كبير على خصائص الجليز النهائية، مثل درجة الانصهار، اللون، واللمعان.

2. الطحن: تحقيق التجانس الجزيئي

بعد الوزن، يتم طحن المكونات معاً. الهدف هو تقليل حجم الجزيئات إلى أقصى حد ممكن، مما يضمن توزيعاً متجانساً للمكونات عند انصهارها. غالباً ما يتم استخدام “مطاحن الكرات” (Ball Mills) لهذا الغرض، وهي عبارة عن أسطوانات دوارة تحتوي على كرات من السيراميك أو المعدن، تدور وتطحن المكونات المخلوطة بالماء.

3. الخلط بالماء: تكوين المعلق (Slurry)

يتم إضافة الماء إلى المسحوق المطحون لإنشاء ما يعرف بـ “معلق الجليز” (Glaze Slurry). تختلف كمية الماء حسب نوع الجليز والغرض منه، ولكن الهدف هو الحصول على قوام مناسب للتطبيق.

4. إضافة المشتتات والمواد المعلقة: تحسين الأداء

في هذه المرحلة، يتم إضافة مواد مثل البنتونيت أو CMC لتحسين قوام المعلق، وزيادة لزوجته، ومنع ترسب الجزيئات الصلبة.

طرق تطبيق الجليز: فن يلامس السطح

هناك عدة طرق لتطبيق الجليز على القطعة الخزفية، وتعتمد الطريقة المختارة على حجم القطعة، شكلها، والنتيجة الجمالية المرغوبة.

1. الغمس (Dipping): الطريقة الأكثر شيوعاً

تتضمن هذه الطريقة غمس القطعة الخزفية بالكامل أو جزئياً في وعاء يحتوي على معلق الجليز. إنها طريقة سريعة وفعالة لتغطية القطعة بالكامل بطبقة متساوية من الجليز. يجب التأكد من خلط المعلق جيداً قبل الغمس.

2. السكب (Pouring): للأسطح الداخلية والخارجية

يمكن سكب الجليز داخل القطعة (مثل الأكواب) لطلاء الأسطح الداخلية، أو سكبه على الأسطح الخارجية. هذه الطريقة تتطلب مهارة لضمان توزيع متساوٍ.

3. الفرشاة (Brushing): للتحكم الدقيق والرسومات

تستخدم الفرشاة لتطبيق الجليز على أجزاء معينة من القطعة، أو لرسم التفاصيل والأنماط. تتطلب هذه الطريقة استخدام جليز أسمك قليلاً لضمان عدم تساقط الجليز من الفرشاة.

4. الرش (Spraying): للتغطية المتجانسة على نطاق واسع

يمكن استخدام مسدس الرش لتطبيق الجليز، خاصة على القطع الكبيرة أو عند الحاجة إلى طبقة رقيقة ومتجانسة جداً. تتطلب هذه الطريقة تحكماً جيداً في ضغط الهواء وكمية الجليز.

عملية الحرق: تحويل السائل إلى زجاج ثابت

الحرق هو المرحلة الحاسمة التي يتحول فيها الجليز من حالة المعلق السائل إلى طبقة زجاجية صلبة ودائمة.

1. درجات الحرارة: نطاقات حرارية مختلفة

يتم حرق الجليز عند درجات حرارة محددة تختلف حسب نوع الجليز والمادة الخزفية. هناك نطاقات حرارية رئيسية:

درجات الحرارة المنخفضة (Low Fire): تتراوح عادة بين 800-1000 درجة مئوية. تستخدم غالباً مع أنواع معينة من الجليزات التي تحتوي على نسبة عالية من مكونات الانصهار.
درجات الحرارة المتوسطة (Mid Fire): تتراوح بين 1050-1150 درجة مئوية.
درجات الحرارة العالية (High Fire): تتراوح بين 1200-1300 درجة مئوية أو أعلى. تستخدم مع البورسلين والأواني الفخارية المتينة.

2. دور الأكسجين: التحولات اللونية

تؤثر ظروف الحرق (وجود الأكسجين أو غيابه) بشكل كبير على الألوان.

الحرق المؤكسد (Oxidation Firing): وجود كمية كافية من الأكسجين. هذا هو الوضع الطبيعي لمعظم الأفران.
الحرق المختزل (Reduction Firing): تقليل إمداد الأكسجين، مما يؤدي إلى تفاعلات كيميائية مختلفة في الجليز، وغالباً ما ينتج عنه ألوان أعمق وأكثر تعقيداً، وقد يحول بعض الأكاسيد إلى ألوان مختلفة تماماً (مثل تحول أكسيد النحاس الأخضر إلى أحمر).

3. التبريد: مرحلة دقيقة

عملية التبريد بعد الحرق لا تقل أهمية عن التسخين. التبريد السريع جداً يمكن أن يؤدي إلى تشقق الجليز (Crazing) أو حتى انفصال القطعة. التبريد التدريجي يسمح للزجاج بالاستقرار دون إجهاد مفرط.

تحديات وحلول في عالم الجليز

على الرغم من أن عملية الجليز تبدو بسيطة في ظاهرها، إلا أنها قد تحمل بعض التحديات التي تواجه الخزافين.

1. التشقق (Crazing): ظهور خطوط دقيقة

يحدث التشقق عندما يكون معامل التمدد الحراري للجليز أعلى من معامل التمدد الحراري للمادة الخزفية. عند التبريد، ينكمش الجسم الخزفي بشكل أسرع من الجليز، مما يسبب إجهاداً ويؤدي إلى ظهور شبكة من الشقوق الدقيقة. يمكن معالجة ذلك عن طريق تعديل تركيبة الجليز لتقليل معامل التمدد الحراري، أو عن طريق اختيار جليز متوافق مع نوع الطين المستخدم.

2. التشوه (Crawling): تكتل الجليز وانسحابه

يحدث التشوه عندما لا يلتصق الجليز جيداً بسطح القطعة، وينسحب بعيداً عنه أثناء الحرق، تاركاً مناطق مكشوفة من الطين. غالباً ما يكون السبب هو وجود طبقة رقيقة جداً من الجليز، أو وجود طبقة دهنية أو غبار على سطح القطعة قبل الجليز، أو استخدام كمية قليلة جداً من الطين في تركيبة الجليز.

3. الفقاعات (Bubbles) والثقوب (Pinholes): عيوب سطحية

يمكن أن تتكون الفقاعات والثقوب في الجليز نتيجة لاحتجاز الهواء أو الغازات أثناء الحرق. قد تكون هذه الغازات ناتجة عن تفاعل المكونات، أو وجود رطوبة زائدة، أو تراكم مفرط للجليز. يمكن تقليل هذه المشكلة عن طريق تطبيق طبقات جليز متساوية، وتجنب التطبيق السميك جداً، وضمان جفاف القطعة تماماً قبل الحرق.

4. تساقط الجليز (Dripping): عند الحواف السفلية

يحدث تساقط الجليز عندما يكون الجليز سائلاً جداً أو تم تطبيقه بشكل سميك جداً على الحواف السفلية للقطعة، مما يؤدي إلى سيلانه إلى الأسفل وربما الالتصاق بصينية الفرن. الحل هو استخدام جليز بتركيبة مناسبة، وتجنب التطبيق السميك جداً، وتنظيف الحافة السفلية للقطعة جيداً من الجليز الزائد.

خاتمة: الجليز، فن يجمع العلم والجمال

إن فهم كيفية عمل الجليز يفتح الباب أمام إمكانيات لا حصر لها في عالم الخزف. إنه ليس مجرد تطبيق بسيط، بل هو عملية علمية وفنية تتطلب معرفة عميقة بالمكونات، ودقة في التحضير، ومهارة في التطبيق، وفهماً لظروف الحرق. من خلال إتقان هذه العملية، يمكن للخزافين تحويل قطع الطين البسيطة إلى أعمال فنية لامعة، خالدة، وجميلة، تعكس الإبداع والشغف.