رحلة في عبق الماضي: استكشاف كنوز الحلويات السورية القديمة

تُعد سوريا، بتاريخها العريق وثقافتها الغنية، لوحة فنية تتجسد فيها فنون الطهي الأصيل، ومن بين أروع ما تحتضنه هذه اللوحة هو عالم الحلويات السورية القديمة. إنها ليست مجرد أطباق حلوة تُقدم في المناسبات، بل هي قصص تُروى، وذكريات تُستعاد، وتراث يُحتفى به عبر الأجيال. كل قطعة حلوى تحمل في طياتها بصمة الزمن، وعبق المكونات الأصيلة، ولمسة أمهر الصناع الذين توارثوا أسرار هذه المهنة جيلاً بعد جيل.

جذور التراث: ما الذي يميز الحلويات السورية القديمة؟

تتميز الحلويات السورية القديمة بمزيج فريد من النكهات والمكونات التي تعكس جغرافية سوريا المتنوعة وتاريخها كملتقى للحضارات. فمن الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب، تتجلى لمسات مختلفة، لكن القاسم المشترك يكمن في استخدام مكونات طبيعية وطازجة، مثل الفستق الحلبي الفاخر، والجوز اللذيذ، واللوز الشهي، بالإضافة إلى أجود أنواع السمن البلدي الذي يمنح الحلويات قوامها الذهبي ونكهتها الغنية.

لا يمكن الحديث عن الحلويات السورية القديمة دون ذكر أهمية العسل والقطر (الشيرة) في إضفاء الحلاوة اللازمة. لكن ما يميزها هو الاعتدال في استخدام هذه المكونات، بحيث لا تطغى الحلاوة على النكهات الأساسية، بل تتناغم معها لتخلق تجربة تذوق لا تُنسى. كما أن التوابل مثل الهيل والزعفران والقرفة تلعب دوراً مهماً في إثراء النكهة وإضفاء لمسة شرقية أصيلة.

أيقونات الحلوى السورية: روائع تتحدى الزمن

تزخر سوريا بقائمة طويلة من الحلويات التي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من هويتها الثقافية، ومن أبرز هذه الأيقونات:

البقلاوة: ملكة الحلويات بلا منازع

لا يمكن لعشاق الحلويات السورية أن يغفلوا عن البقلاوة. إنها ليست مجرد طبقات رقيقة من العجين المحشو بالمكسرات، بل هي تحفة فنية هندسية تُحاك بدقة متناهية. يبدأ الأمر بعجينة الفيلو الرقيقة جداً، والتي يُقال إن إتقانها يحتاج إلى سنوات من الخبرة. تُفرد هذه العجينة حتى تصبح شفافة تقريباً، ثم تُدهن بالسمن البلدي الفاخر، وتُحشى بخليط سخي من المكسرات المفرومة، غالباً ما يكون الفستق الحلبي أو الجوز، مع قليل من السكر والقرفة.

تُقطع البقلاوة بعناية إلى أشكال هندسية متقنة، ثم تُخبز في أفران تقليدية حتى تكتسب لونها الذهبي المائل للبني، وتصبح مقرمشة بشكل مثالي. بعد خروجها من الفرن، تُسقى فوراً بالقطر الساخن، الذي يتغلغل بين طبقات العجين الهشة، ويمنحها لمعاناً جذاباً وحلاوة متوازنة. تختلف أنواع البقلاوة حسب الحشوة وطريقة التقطيع، فمنها البقلاوة بالبقلاوة، والمبرومة، والمحشوة، والبقلاوة السلطانية، وكل نوع يحمل بصمته الخاصة.

الكنافة: دفء الشرق وغنى المذاق

الكنافة هي الأخرى عنوان للدفء والفرح في المطبخ السوري. تتكون أساساً من طبقة سفلية من عجينة الكنافة، وهي خيوط رفيعة من العجين، تُخلط مع السمن لتمنحها القرمشة اللازمة. تُحشى هذه الطبقة بالجبنة البيضاء العذبة، التي تذوب وتتمطط عند الخبز، لتشكل تجربة حسية فريدة.

تُخبز الكنافة في الفرن حتى يصبح لونها ذهبياً محمراً، ثم تُقلب بحذر لتُسقى بالقطر الساخن. غالباً ما تُزين بالفساتق المطحونة أو جوز الهند المبشور. هناك أنواع مختلفة من الكنافة، أشهرها الكنافة النابلسية (التي اشتهرت في فلسطين ولكنها محبوبة جداً في سوريا) والكنافة الخشنة والكنافة الشعر. يُقال إن قرمشة عجينة الكنافة مع ذوبان الجبنة وحلاوة القطر هي وصفة للسعادة المطلقة.

المعمول: بصمة العيد والاحتفالات

لا يكتمل عيد الفطر أو عيد الأضحى في سوريا دون المعمول. هذه الحلوى الدائرية أو الأسطوانية الشكل، تُحضر من عجينة هشة مصنوعة من السميد أو الطحين، وتُحشى بالتمور الغنية، أو عين الجمل (الجوز)، أو الفستق الحلبي. ما يميز المعمول هو النقوش التي تُزين سطحه باستخدام قوالب خشبية خاصة، تختلف أشكالها وتفاصيلها، وتُضفي عليه لمسة فنية تقليدية.

تُخبز المعمولات حتى تكتسب لوناً ذهبياً رقيقاً. بعد أن تبرد، تُغبر بالسكر البودرة الناعم، لتمنحها مظهراً احتفالياً مميزاً. يُقال إن رائحة المعمول وهي تُخبز في الفرن تبعث على الشعور بالبهجة والتجمع العائلي.

الغريبة: بساطة تُبهر ونقاء يُرضي

تُعد الغريبة من أبسط أنواع الحلويات السورية، لكنها في بساطتها تكمن روعتها. تُصنع الغريبة من مكونات قليلة جداً: طحين، وسمن، وسكر. وتكمن براعة صانعها في الوصول إلى القوام المثالي، بحيث تكون هشة جداً وتذوب في الفم.

غالباً ما تُزين الغريبة بحبة فستق أو لوز في وسطها. لا تحتاج الغريبة إلى خبز طويل، بل تُخبز حتى تتماسك قليلاً. تُقدم غالباً في الأعياد والمناسبات، وهي خيار مثالي لمن يفضلون الحلويات غير المشبعة بالقطر.

حلاوة الجبن: حلوى كريمية تأسر الحواس

تُعد حلاوة الجبن من الحلويات الشرقية الفاخرة، وهي سورية بامتياز. تتكون من جبنة عذراء خاصة، تُعجن مع السكر والقليل من الماء لتشكيل عجينة لينة ومرنة. تُفرد هذه العجينة وتُحشى بالكريمة الغنية، ثم تُلف وتُقطع إلى شرائح.

ما يميز حلاوة الجبن هو قوامها الكريمي وطعمها الفريد الذي يجمع بين ملوحة الجبن الخفيفة وحلاوة القطر. تُزين عادة بالفساتق المطحونة، مما يمنحها مظهراً شهياً.

الراحة (الحلقوم): تنوع نكهات وسحر قوام

على الرغم من أن الحلقوم يُعرف في مناطق عديدة من الشرق الأوسط، إلا أن النسخة السورية منه تحمل طابعاً خاصاً. يُصنع الحلقوم من النشاء والماء والسكر، ويُكهن بنكهات متنوعة مثل ماء الورد، وماء الزهر، والفستق، والجوز، والقرفة.

يُقطع الحلقوم إلى مكعبات صغيرة، ثم يُغبر بالسكر البودرة أو نشا الذرة لمنع التصاقه. يتميز بقوامه المطاطي الناعم وطعمه الحلو الذي يختلف باختلاف النكهات المضافة.

أسرار الصنعة: الحرفية والوصفات المتوارثة

إن صناعة الحلويات السورية القديمة ليست مجرد وصفات تُتبع، بل هي فن يتطلب مهارة ودقة وشغفاً. يعتمد الطهاة التقليديون على خبرات متوارثة، وحس مرهف لتحديد الكميات وضبط درجات الحرارة. فمثلاً، درجة حرارة الفرن المناسبة، أو قوام القطر المثالي، أو طريقة عجن العجين، كلها عوامل تلعب دوراً حاسماً في نجاح الحلوى.

كانت الأفران الحطبية تلعب دوراً مهماً في إعطاء الحلويات نكهة مدخنة خفيفة ومميزة، كما أن استخدام السمن البلدي المُعدّ يدوياً يمنحها طعماً غنياً لا يُضاهى. حتى الآن، لا يزال العديد من أصحاب المحلات والمنازل يحافظون على هذه الأساليب التقليدية، مما يضمن استمرار أصالة هذه الحلويات.

الحلويات السورية القديمة اليوم: بين الحنين والتجديد

في عصرنا الحالي، ورغم انتشار الحلويات الحديثة والمتنوعة، لا تزال الحلويات السورية القديمة تحتفظ بمكانتها الخاصة في قلوب السوريين وغيرهم. إنها ليست مجرد طعام، بل هي وسيلة للتواصل مع الماضي، ولتذكير الأجيال الجديدة بجذورهم وتراثهم الغني.

تُقدم هذه الحلويات في المناسبات العائلية، والأعياد، والاحتفالات، وغالباً ما تكون جزءاً أساسياً من الضيافة السورية الأصيلة. كما أن هناك محاولات مستمرة لإعادة تقديم هذه الحلويات بلمسات عصرية، مع الحفاظ على جوهرها الأصيل، وذلك لجذب أجيال جديدة وللتأكيد على أن هذا التراث لا يزال حياً ومتجدداً.

في الختام، إن عالم الحلويات السورية القديمة هو عالم ساحر يجمع بين التاريخ، والثقافة، والفن، والطعم الرائع. إنها دعوة لاستكشاف النكهات الأصيلة، ولتذوق حكايات الماضي، وللاحتفاء بالتقاليد التي تستمر في إبهارنا وإسعادنا.