فن فلسطيني أصيل: أسرار كبس الزيتون الأسود بالطريقة التقليدية

تُعدّ فلسطين، أرض الحضارات والتاريخ العريق، موطنًا للعديد من الصناعات التقليدية التي تتوارثها الأجيال. ومن بين هذه الصناعات، يحتلّ كبس الزيتون الأسود مكانة خاصة في قلوب وعادات الشعب الفلسطيني. فهو ليس مجرد عملية تحويل لثمار الزيتون، بل هو طقس اجتماعي واقتصادي، يحمل في طياته عبق الأرض ورائحة الأصالة، ويُعتبر جزءًا لا يتجزأ من المطبخ الفلسطيني الغني والمتنوع. إنّ الزيتون الأسود الفلسطيني، بملوحته المميزة وطعمه الغني، هو نجم المائدة الفلسطينية، حاضرٌ في كل وجبة، ورمزٌ للكرم والضيافة.

تتجاوز أهمية الزيتون الأسود في فلسطين مجرد كونه غذاءً؛ فهو جزء من الهوية الثقافية، ورمز للصمود، وشريان حياة للعديد من الأسر. وتُعدّ طريقة كبسه التقليدية، التي حافظ عليها الفلسطينيون عبر القرون، سرًا لا يُفشى بسهولة، وهي مزيج من الخبرة المتوارثة، والمعرفة الدقيقة بطبيعة الثمار، والممارسات البيئية المستدامة. في هذا المقال، سنغوص في أعماق هذه العملية العريقة، ونكشف عن أسرارها، ونستعرض خطواتها بدقة، مع تسليط الضوء على أهميتها الثقافية والاقتصادية.

اختيار الثمار: أساس النجاح في كبس الزيتون

تبدأ رحلة كبس الزيتون الأسود الفلسطيني باختيار الثمار المناسبة، وهي خطوة حاسمة تحدد جودة المنتج النهائي. لا يتم قطف الزيتون الأسود من الشجرة إلا بعد أن يصل إلى مرحلة النضج الكامل، حيث يتحول لونه من الأخضر إلى الأسود الداكن أو الأرجواني الغامق. هذه المرحلة تضمن حصول الزيتون على نسبة عالية من الزيت، ونكهة غنية، وقوام مثالي للكبس.

أنواع الزيتون المناسبة للكبس:

لا تصلح جميع أنواع الزيتون للكبس بنفس الطريقة. في فلسطين، تُفضل أنواع معينة تُعرف بصلابتها وقدرتها على تحمل عملية الكبس دون أن تتفتت أو تفقد نكهتها. من أبرز هذه الأنواع:

زيتون التفاحي: يُعتبر من أشهر الأنواع وأكثرها استخدامًا في الكبس. يتميز بحبته الكبيرة وشكله المستدير، ويُعرف بقوامه المتماسك ونكهته المميزة التي تكتسب عمقًا عند الكبس.
زيتون نابلسي: نوع آخر ذو شعبية واسعة، يتميز بطعمه الغني وقدرته على امتصاص النكهات بشكل جيد.
زيتون حلواني: يُستخدم أيضًا في بعض المناطق، ويتميز بحجمه الأصغر نسبيًا ونكهته الحادة التي تتحول إلى اعتدال بعد عملية الكبس.

علامات الزيتون الجيد للكبس:

اللون: يجب أن يكون الزيتون أسود اللون بشكل متجانس، مع تجنب الثمار التي تحمل بقعًا خضراء أو علامات تلف.
القوام: يجب أن تكون الثمار صلبة ومتماسكة، وليست لينة أو ذابلة. يمكن اختبار صلابة الثمرة بالضغط عليها بلطف؛ فيجب أن تشعر ببعض المقاومة.
خلوه من العيوب: تجنب الثمار التي تحمل ثقوبًا أو علامات حشرات أو أمراض، فهذه الثمار قد تؤثر سلبًا على جودة الكبس.
الرائحة: يجب أن تكون رائحة الزيتون طبيعية ومنعشة، وخالية من أي روائح كريهة أو عفنة.

عملية الكبس: فن يتطلب صبرًا ودقة

تُعدّ عملية كبس الزيتون الأسود الفلسطيني من العمليات التي تتطلب صبرًا طويلًا ودقة في التنفيذ. الهدف الرئيسي من الكبس هو إزالة المرارة الطبيعية الموجودة في الزيتون، وتحويله إلى ثمرة قابلة للأكل، ذات طعم لذيذ ومقبول. الطرق التقليدية تعتمد على تفاعل الزيتون مع الماء والملح، بالإضافة إلى آليات ميكانيكية تساعد في إخراج ما تبقّى من العصارة المرّة.

الخطوات الأساسية لعملية الكبس:

1. الغسل والتنظيف: بعد قطف الزيتون، يتم غسله جيدًا بالماء لإزالة الأتربة والأوساخ وأي شوائب عالقة. تُفرز الثمار للتخلص من أي زيتون تالف أو غير صالح.

2. التشقيق أو الثقب: هذه هي الخطوة المحورية في عملية الكبس. يتم تشقيق كل حبة زيتون باستخدام أداة حادة، مثل سكين أو مطرقة صغيرة، أو استخدام “المخراط” وهو عبارة عن أداة مخصصة لعمل ثقوب متعددة في حبة الزيتون. الهدف من التشقيق هو تسهيل خروج المادة المرة (الأوليوروبين) من الزيتون، والسماح للماء والملح بالتغلغل داخل الثمرة. تختلف طريقة التشقيق من منطقة لأخرى، فبعضهم يشق الثمرة طولياً، والبعض الآخر يحدث فيها ثقبًا أو أكثر.

3. النقع في الماء: بعد التشقيق، يُنقع الزيتون في أوعية كبيرة مملوءة بالماء العذب. تُغيّر المياه بشكل دوري، عادةً كل يوم أو يومين، على مدار أسابيع. تستمر هذه العملية حتى تختفي المرارة تقريبًا من الزيتون. يعتمد طول فترة النقع على نوع الزيتون، درجة نضجه، وطريقة التشقيق. قد تستغرق هذه المرحلة من أسبوعين إلى شهر أو أكثر.

4. التمليح: عندما يصل الزيتون إلى درجة مقبولة من تقليل المرارة، تبدأ مرحلة التمليح. تُوضع طبقات من الزيتون في أوعية التخزين، مع رش كميات وفيرة من الملح الخشن بين كل طبقة. يُستخدم الملح الخشن عادةً لأنه يذوب ببطء ويحافظ على قوام الزيتون. تتراوح نسبة الملح بين 10% إلى 15% من وزن الزيتون، وقد تزيد في بعض الأحيان حسب الرغبة.

5. التغطية والانتظار: بعد التمليح، يُغطى الزيتون بالماء المالح (ماء تم إذابة الملح فيه) لضمان بقائه مغمورًا بالكامل. تُوضع طبقة من الأكياس البلاستيكية أو القماش على سطح الزيتون، ثم يُغطى الوعاء بإحكام. يُترك الزيتون في هذه المرحلة لعدة أسابيع أخرى، أو حتى أشهر، ليتم تمليحه بشكل كامل واكتساب النكهة المطلوبة. خلال هذه الفترة، قد تلاحظ تكون طبقة من الزيت على السطح، وهي علامة جيدة على بدء عملية التخليل.

إضافات تقليدية تُثري النكهة

لا تقتصر عملية كبس الزيتون الفلسطيني على الماء والملح فقط، بل تتفنن الأيدي الفلسطينية في إضافة بعض المكونات التقليدية التي تُضفي على الزيتون نكهة فريدة وطابعًا مميزًا. هذه الإضافات لا تغير من طبيعة الزيتون الأساسية، بل تعزز من مذاقه وتجعله طبقًا جانبيًا شهيًا بحد ذاته.

أشهر الإضافات التقليدية:

الليمون: يُضاف الليمون، سواء شرائح أو عصير، ليمنح الزيتون نكهة منعشة وحموضة خفيفة تمزج بشكل رائع مع ملوحة الزيتون. غالبًا ما يُضاف الليمون في المراحل الأخيرة من التخليل.
الفلفل الأخضر أو الأحمر: تُضاف قرون الفلفل الصحيحة أو المقطعة لإضفاء لمسة من الحدة والحيوية على طعم الزيتون.
أوراق الغار: تُعرف أوراق الغار بقدرتها على إضفاء رائحة عطرية مميزة، وتُستخدم في بعض الأحيان لتحسين نكهة الزيتون.
الثوم: تُضاف فصوص الثوم الكاملة أو المقطعة، لتعطي الزيتون نكهة قوية ومميزة.
أعشاب أخرى: في بعض المناطق، قد تُضاف أعشاب محلية مثل الزعتر أو إكليل الجبل، لتعزيز النكهة المحلية الأصيلة.

التخزين والعناية بالزيتون المكفوس

بعد اكتمال عملية الكبس والتخليل، يصبح الزيتون جاهزًا للتخزين والاستهلاك. تُعدّ طريقة التخزين الصحيحة مفتاح الحفاظ على جودة الزيتون وطعمه لفترات طويلة.

نصائح للتخزين:

الحفاظ على الغمر بالماء والملح: يجب أن يظل الزيتون دائمًا مغمورًا بالكامل في محلول الماء والملح. إذا تبخر جزء من السائل، يجب إضافة المزيد من الماء المالح بنفس التركيز.
الأوعية المناسبة: تُستخدم عادةً أوعية زجاجية أو فخارية أو بلاستيكية مخصصة لحفظ الطعام. يجب أن تكون هذه الأوعية نظيفة وجافة تمامًا قبل وضع الزيتون فيها.
مكان بارد ومظلم: يُفضل تخزين الزيتون المكفوس في مكان بارد وجاف ومظلم، مثل القبو أو خزانة المطبخ بعيدًا عن أشعة الشمس المباشرة.
استخدام الزيتون: عند استهلاك الزيتون، يجب استخدام أوعية نظيفة وملعقة مخصصة لتجنب تلوث باقي الكمية.

الزيتون الأسود الفلسطيني: أكثر من مجرد طعام

إنّ كبس الزيتون الأسود بالطريقة الفلسطينية ليس مجرد عملية تحضير طعام، بل هو جزء لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي والثقافي الفلسطيني. تتجمع العائلات في موسم قطاف الزيتون، وتتعاون النساء في هذه المهمة التي تتطلب جهدًا ووقتًا. تُعدّ هذه العملية فرصة للتواصل، وتبادل الخبرات، وتعزيز الروابط الأسرية.

الأبعاد الثقافية والاقتصادية:

رمز للصمود: في ظل التحديات التي تواجه الشعب الفلسطيني، يُعدّ الزيتون وشجره رمزًا للصمود والارتباط بالأرض.
مصدر رزق: يُشكل بيع الزيتون المكفوس ومشتقاته مصدر دخل للعديد من المزارعين والأسر الريفية.
ضيف دائم على المائدة: لا تخلو مائدة فلسطينية من الزيتون الأسود. فهو يُقدم مع وجبة الإفطار، ويُستخدم في السلطات، ويُضاف إلى العديد من الأطباق.
تراث حي: تُعتبر طرق الكبس التقليدية جزءًا من التراث غير المادي الذي تسعى فلسطين للحفاظ عليه ونقله للأجيال القادمة.

في الختام، فإنّ طريقة كبس الزيتون الأسود على الطريقة الفلسطينية هي قصة عشق للأرض، وتقدير للطبيعة، وحفاظ على إرث عريق. إنها عملية تتجاوز مجرد تحويل ثمار الزيتون إلى مادة غذائية، لتصبح فنًا أصيلًا، يجمع بين الخبرة المتوارثة، والدقة في التنفيذ، والإضافات التي تُثري النكهة، لتخرج لنا في النهاية تلك الثمرة السوداء اللامعة، التي تحمل بين طياتها نكهة فلسطين وروح شعبها الأصيل.