فن استخلاص الذهب السائل: رحلة عصر الزيتون في فلسطين
تُعدّ فلسطين، بأرضها العريقة وتاريخها الممتد لآلاف السنين، مهدًا لشجرة الزيتون المباركة، التي لا تمثل مجرد شجرة، بل هي رمز للصمود، والحياة، والتراث. ومنذ القدم، ارتبطت حياة الفلسطينيين ارتباطًا وثيقًا بزيت الزيتون، ليس فقط كمصدر للغذاء والدواء، بل كجزء لا يتجزأ من هويتهم الثقافية والاجتماعية. إن عملية عصر الزيتون في فلسطين هي أكثر من مجرد تقنية؛ إنها طقس سنوي، ومناسبة تجمع العائلات، وتحكي قصة ارتباط عميق بين الإنسان والأرض، وتجسد فنًا متوارثًا عبر الأجيال لاستخلاص “الذهب السائل” الثمين.
الزيتون في فلسطين: تاريخ يمتد عبر العصور
لا يمكن الحديث عن عصر الزيتون في فلسطين دون الغوص في عمق تاريخ هذه الشجرة المقدسة. فقد دلت الحفريات الأثرية على وجود زراعة الزيتون في فلسطين منذ العصر النحاسي، بل ربما قبل ذلك بكثير. وتُعتبر أشجار الزيتون المعمرة في فلسطين، وبعضها يعود إلى آلاف السنين، شواهد حية على هذا الارتباط العميق. هذه الأشجار ليست مجرد مصدر للثمار، بل هي كنوز وطنية، تحمل في أغصانها حكايات الأجداد، وصمود الأجيال في وجه التحديات.
أنواع الزيتون المنتشرة في فلسطين
تزخر فلسطين بمجموعة متنوعة من أصناف الزيتون، لكل منها خصائصه المميزة التي تؤثر على جودة الزيت الناتج. من أبرز هذه الأصناف:
النبالي: يُعدّ من أشهر وأجود الأصناف، ويتميز بإنتاجه الغزير وجودة زيتِه العالية. غالبًا ما يكون زيت النبالي زيتًا عالي الجودة، غنيًا بالنكهات الفاكهية.
الدسوقي: صنف آخر ذو شعبية واسعة، ينتج زيتًا ذا نكهة مميزة.
الخضيري: يُعرف بإنتاجه الممتاز وزيته ذي الجودة العالية، وغالبًا ما يُستخدم في إنتاج زيت الزيتون البكر الممتاز.
الصوراني: صنف منتشر في مناطق مختلفة، ويُستخدم في إنتاج زيت زيتون ذي خصائص فريدة.
تختلف هذه الأصناف في نسبة الزيت في الثمار، وموعد نضجها، ومقاومتها للآفات، مما يجعل اختيار الصنف المناسب عاملاً أساسيًا في جودة الإنتاج.
موسم قطاف الزيتون: بداية الرحلة
يبدأ موسم قطاف الزيتون في فلسطين عادةً في فصل الخريف، وغالبًا ما يتراوح بين شهري أكتوبر ونوفمبر، ويعتمد ذلك على الظروف المناخية والمنطقة الجغرافية. إنها فترة حافلة بالنشاط والترقب، حيث تستعد العائلات لهذه المناسبة السنوية الهامة.
طقوس القطاف: عمل جماعي وتراثي
يتسم قطاف الزيتون في فلسطين بالطابع الجماعي والتراثي. تتجمع العائلات، بما في ذلك الأجداد والأطفال، في بساتين الزيتون. تُستخدم أدوات تقليدية في القطاف، مثل “المشاط” (أمشاط خشبية أو بلاستيكية) لإسقاط الثمار من الأغصان، و”المهادات” (أقمشة كبيرة أو شبكات) تُفرش تحت الأشجار لالتقاط الزيتون المتساقط. يُفضل القطاف اليدوي قدر الإمكان لضمان سلامة الثمار وتقليل التلف، مما ينعكس إيجابًا على جودة الزيت.
التحديات التي تواجه القطاف
لا يخلو موسم القطاف من التحديات. فالممارسات الزراعية غير المستدامة، والتغيرات المناخية، والقيود المفروضة على الوصول إلى الأراضي، كلها عوامل تؤثر على كمية وجودة المحصول. ورغم ذلك، يظل الفلسطينيون متمسكين بأرضهم وأشجار زيتونهم، ويعملون جاهدين للحفاظ على هذا الإرث.
مراحل عصر الزيتون: من الثمرة إلى الزيت
بعد قطاف الزيتون، تبدأ المرحلة الحاسمة وهي عصر الزيتون لاستخلاص الزيت. تطورت طرق العصر عبر التاريخ، من الأساليب البدائية إلى التقنيات الحديثة، لكن الهدف يبقى واحدًا: الحصول على زيت زيتون نقي وعالي الجودة.
الطرق التقليدية للعصر: إرث الأجداد
لعبت الطرق التقليدية دورًا محوريًا في تاريخ عصر الزيتون الفلسطيني. ورغم تراجع استخدامها لصالح التقنيات الحديثة، إلا أنها لا تزال تحمل قيمة تاريخية وثقافية كبيرة، وبعضها لا يزال مستخدمًا في المناطق الريفية أو كمحاكاة للعرض المتحفي.
1. المعاصر الحجرية (العصارات الحجرية):
كانت المعاصر الحجرية هي السائدة في العصور القديمة. وتتكون هذه المعاصر من:
الرحى الحجرية: عبارة عن حجر ثقيل دائري، غالبًا ما يكون مصنوعًا من البازلت أو الجرانيت، يدور فوق حجر آخر ثابت (قاعدة). تُوضع ثمار الزيتون بين الحجرين، ويقوم العمال أو الحيوانات (مثل الحمير أو البغال) بتدوير الرحى لطحن الزيتون وتحويله إلى عجينة.
المكابس: بعد طحن الزيتون، تُوضع العجينة في سلال أو أكياس من الألياف الطبيعية، وتُكبس باستخدام مكابس خشبية أو حجرية قوية. يتم ضغط العجينة لاستخلاص الزيت والماء.
الخلايا: تُجمع السوائل المستخلصة في أوعية خاصة تُسمى “الخلايا”، حيث ينفصل الزيت عن الماء بفعل اختلاف الكثافة، ويُجمع الزيت في الأعلى.
كانت هذه العملية تستغرق وقتًا وجهدًا كبيرين، وتتطلب مهارة فائقة لضمان استخلاص أكبر كمية ممكنة من الزيت بأقل قدر من التلف.
2. المعاصر الأسطوانية (المعاصر ذات العجلات):
تطورت المعاصر الحجرية لتشمل استخدام عجلات حجرية ثقيلة تدور داخل حوض حجري دائري. كانت هذه الطريقة أكثر كفاءة من الرحى الحجرية، حيث توفر ضغطًا متساويًا على عجينة الزيتون.
الطرق الحديثة للعصر: التقنية في خدمة التراث
مع التطور التكنولوجي، شهدت فلسطين، شأنها شأن العديد من الدول المنتجة لزيت الزيتون، التحول إلى المعاصر الحديثة. هذه المعاصر، المعروفة بـ “المعاصر الزيتية الحديثة” أو “المعاصر على البارد”، تتميز بالكفاءة العالية، والجودة الممتازة للزيت، والحفاظ على العناصر الغذائية.
1. المعاصر ذات الضغط (الهيدروليكية):
كانت هذه المعاصر تمثل نقلة نوعية في العصر. تعتمد على استخدام مكابس هيدروليكية قوية لضغط عجينة الزيتون. هذه الطريقة تسمح باستخلاص كميات كبيرة من الزيت، ولكنها قد تؤدي إلى تسخين الزيت إذا لم يتم التحكم في درجة الحرارة، مما يؤثر على جودته.
2. المعاصر المستمرة (نظام الدرفلة – Centrifugal System):
هي التقنية الأكثر حداثة وشيوعًا حاليًا. تعتمد هذه المعاصر على مرحلتين رئيسيتين:
الخلط (Malaxation): بعد طحن الزيتون في كسارات ميكانيكية، تتحول الثمار إلى عجينة. توضع هذه العجينة في خلاطات خاصة (Malaxers) حيث تُقلب ببطء عند درجة حرارة معينة (تُفضل درجة حرارة الغرفة أو أقل من 30 درجة مئوية للحفاظ على جودة الزيت البكر الممتاز). تهدف هذه العملية إلى مساعدة قطرات الزيت الصغيرة على التجمع لتسهيل استخلاصها.
الفصل بالطرد المركزي (Centrifugation): تُنقل العجينة بعد الخلط إلى أجهزة الطرد المركزي. هذه الأجهزة تدور بسرعة عالية جدًا، مما يفصل الزيت عن الماء وباقي المواد الصلبة (مثل نوى الزيتون والبذور) بفعل قوة الطرد المركزي. يُعدّ هذا النظام فعالًا للغاية، حيث ينتج زيتًا عالي الجودة ويحافظ على نكهته وفوائده الصحية.
المعاصر على البارد: سر الجودة العالية
تُعدّ “المعاصر على البارد” (Cold Pressing) هي المفتاح للحصول على زيت زيتون بكر ممتاز. وتعني هذه العملية أن درجة حرارة العجينة أثناء الخلط والفصل لا تتجاوز 30 درجة مئوية. هذا يضمن الحفاظ على المركبات الفينولية المفيدة، ومضادات الأكسدة، والنكهات الطبيعية للزيت.
عملية العصر في المعاصر الحديثة: خطوات تفصيلية
تمر عملية العصر في المعاصر الحديثة بعدة مراحل دقيقة:
أ. التنظيف والفرز:
تبدأ العملية باستلام الزيتون في المعصرة.
يُفرز الزيتون للتخلص من الأوراق والأغصان والشوائب الأخرى.
تُغسل الثمار جيدًا بالماء النظيف لإزالة أي أتربة أو بقايا.
ب. الطحن (Grinding):
يُوضع الزيتون المغسول في كسارات ميكانيكية، عادةً ما تكون كسارات ذات مطارق أو كسارات دائرية.
تُطحن الثمار، بما في ذلك اللب والنواة، لتكوين عجينة خشنة.
ج. الخلط (Malaxation):
تُنقل العجينة إلى أوعية الخلط (Malaxers).
تُقلب العجينة ببطء لفترة زمنية محددة، مع التحكم الدقيق في درجة الحرارة (يفضل أقل من 30 درجة مئوية).
تساعد هذه العملية على تجميع قطرات الزيت الصغيرة المتكونة أثناء الطحن.
د. الفصل (Separation):
تُضخ العجينة إلى جهاز الطرد المركزي ثلاثي الأطوار أو ثنائي الأطوار.
يقوم جهاز الطرد المركزي بفصل المكونات الثلاثة (الزيت، الماء، والمواد الصلبة) أو المكونات الثنائية (الزيت، والمعجون المتبقي).
يُجمع الزيت النقي الناتج.
هـ. الترشيح والتعبئة:
بعد الفصل، قد يحتوي الزيت على بعض الرواسب الدقيقة.
يُفضل ترشيح الزيت باستخدام مرشحات خاصة للحصول على زيت نقي ولامع.
يُعبأ الزيت في عبوات زجاجية داكنة أو معدنية للحفاظ على جودته وحمايته من الضوء.
جودة زيت الزيتون الفلسطيني: عوامل التميز
يُعرف زيت الزيتون الفلسطيني بجودته العالية، ونكهته الغنية، وفوائده الصحية العديدة. تعود هذه الجودة إلى عدة عوامل متكاملة:
جودة الثمار: يعتمد إنتاج زيت عالي الجودة على جودة ثمار الزيتون نفسها، والتي تتأثر بنوع التربة، والمياه، والمناخ، والممارسات الزراعية.
طرق العصر: استخدام التقنيات الحديثة، وخاصة المعاصر على البارد، يلعب دورًا حاسمًا في الحفاظ على العناصر الغذائية والنكهات.
سرعة النقل: يجب نقل ثمار الزيتون من البستان إلى المعصرة بأسرع وقت ممكن بعد القطف لتقليل التلف ومنع التخمر.
الظروف الصحية: الحفاظ على النظافة التامة في جميع مراحل العصر والتعبئة يمنع تلوث الزيت.
التخزين السليم: تخزين الزيت في عبوات مناسبة وفي مكان بارد ومظلم يضمن بقاء جودته لفترة أطول.
زيت الزيتون الفلسطيني: أكثر من مجرد طعام
لم يعد زيت الزيتون الفلسطيني مجرد مكون أساسي في المطبخ الفلسطيني، بل أصبح سفيرًا ثقافيًا، ورمزًا للصمود، وركيزة اقتصادية. يُصدر هذا الزيت إلى العديد من دول العالم، حيث يحظى بتقدير كبير لجودته العالية ونكهته الفريدة. كما أن استثمار الشباب الفلسطيني في تطوير صناعة زيت الزيتون، من خلال تبني تقنيات حديثة والتركيز على الجودة، يساهم في تعزيز الاقتصاد المحلي وإبراز الهوية الفلسطينية.
التحديات والآفاق المستقبلية
رغم التميز الذي يحظى به زيت الزيتون الفلسطيني، إلا أن هناك تحديات تواجه القطاع. تتمثل هذه التحديات في:
القيود على الوصول إلى الأراضي: تؤثر الممارسات الإسرائيلية على قدرة المزارعين الفلسطينيين على الوصول إلى بساتينهم ورعايتها.
الآثار البيئية: التغيرات المناخية والجفاف يؤثران على كمية الإنتاج.
التسويق والمنافسة: الحاجة إلى تعزيز استراتيجيات التسويق والوصول إلى أسواق عالمية جديدة.
ومع ذلك، فإن الآفاق المستقبلية واعدة. من خلال الاستثمار في البحث والتطوير، والتركيز على الزراعة المستدامة، وتعزيز الوعي بجودة زيت الزيتون الفلسطيني، يمكن لهذا القطاع أن ينمو ويزدهر، ليظل شاهدًا على صمود الشعب الفلسطيني وارتباطه بأرضه.
