طريقة عصر الزيتون قديماً: رحلة عبر الزمن لاستخلاص الذهب السائل
لطالما شكل الزيتون، تلك الثمرة المباركة، جزءًا لا يتجزأ من تراث وثقافة وحياة المجتمعات المتوسطية عبر العصور. ولم تكن أهميته تقتصر على قيمته الغذائية العالية فحسب، بل امتدت لتشمل دوره المحوري في الاقتصاد والطقوس الدينية والاجتماعية. إن استخلاص الزيت من هذه الثمرة، أو ما يُعرف بـ “عصر الزيتون”، لم يكن مجرد عملية زراعية أو صناعية، بل كان فنًا وتقنية تتوارثها الأجيال، تحمل في طياتها عبق التاريخ وحكمة الأجداد. في هذا المقال، سنغوص في أعماق الماضي لنكشف عن الطرق التقليدية لعصر الزيتون، تلك العمليات التي كانت تبدأ من الحقل وتنتهي بزيت نقي يضيء موائد البيوت ويشفي الأبدان.
الاستعداد للحصاد: لمسة من العناية والتقدير
لم يكن عصر الزيتون يبدأ بمجرد وصول الثمار إلى المعصرة، بل كانت العملية بأكملها تتطلب تخطيطًا دقيقًا وإعدادًا شاملاً. تبدأ القصة في أواخر فصل الصيف وبداية الخريف، حيث تبدأ ثمار الزيتون في اكتساب لونها المميز، من الأخضر الفاتح إلى الأرجواني الداكن أو الأسود. كان المزارعون يدركون جيدًا أن توقيت الحصاد يلعب دورًا حاسمًا في جودة الزيت الناتج. فالزيتون الذي يُحصد في وقت مبكر جدًا ينتج زيتًا ذو حموضة عالية ونكهة قوية، بينما الزيتون الذي يُترك ليُنضج أكثر من اللازم قد يؤدي إلى زيت أقل جودة.
أدوات الحصاد التقليدية: إرث الأيدي الماهرة
كانت أدوات الحصاد بسيطة ولكنها فعالة، تعكس مدى البساطة والاعتماد على الموارد المتاحة. كانت “المشط” أو “المنشاط” أداة شائعة، وهي عبارة عن عصا طويلة ذات أسنان أو شوكات في نهايتها، يستخدمها العمال لتسريح أغصان الشجر و إسقاط الثمار. كان هذا العمل يتطلب مهارة ودقة لتجنب إلحاق الضرر بالأشجار أو الأغصان الرقيقة. في بعض الأحيان، كان يتم استخدام “المدراس” أو “الشبكات” لتوضع تحت الأشجار لجمع الزيتون المتساقط، مما يقلل من تلوث الثمار بالأتربة والأعشاب. لم يكن العمال يكتفون بالاهتزاز، بل كانوا أحيانًا يتسلقون الأشجار بحذر شديد، مستخدمين مهارة اكتسبوها عبر سنوات طويلة، لقطف الثمار الناضجة بعناية فائقة.
تجميع الثمار: سر الحفاظ على الجودة
بعد الحصاد، كانت الخطوة التالية هي تجميع الثمار. كانت هذه المرحلة حاسمة للحفاظ على جودة الزيتون. كان يتم نقل الزيتون المقطوف في سلال مصنوعة من القش أو الخيزران، أو أحيانًا في أكياس قماشية كبيرة. كان من الضروري أن تتم هذه العملية بسرعة وبحرص، وتجنب تكديس كميات كبيرة من الزيتون فوق بعضها البعض، خاصة في الأجواء الحارة، لتفادي بدء عمليات التخمر غير المرغوب فيها التي قد تؤثر سلبًا على طعم الزيت ورائحته. كان يتم فرز الزيتون أحيانًا لإزالة الأوراق والأغصان والأثمار غير الناضجة أو التالفة، وذلك لضمان وصول ثمار سليمة ونقية إلى مرحلة العصر.
مرحلة الطحن: قلب العملية النابض
تُعد مرحلة طحن الزيتون هي قلب عملية العصر، حيث يتم تكسير الثمار لاستخلاص الزيت منها. كانت الطرق التقليدية تعتمد على أدوات قوية وبسيطة، ولكنها كانت فعالة للغاية في إنجاز هذه المهمة.
المعاصر الحجرية: صدى الأزمان في كل دورة
كانت المعاصر الحجرية هي السمة الغالبة في معظم المناطق، وما زالت آثارها باقية في العديد من القرى. كانت هذه المعاصر تتكون من عدة أجزاء رئيسية:
الجرن (أو الحوض): وهو حوض حجري كبير، عادة ما يكون دائريًا أو شبه دائري، منحوت بعمق في الأرض أو في كتلة حجرية ضخمة. كان هذا الجرن هو المكان الذي توضع فيه ثمار الزيتون ليتم طحنها.
الرحى (أو الحجر الدوار): وهو عبارة عن حجر ثقيل، غالبًا ما يكون أسطوانيًا أو مخروطيًا، يتم تدويره داخل الجرن. كانت هذه الرحى تدور إما بفعل قوة بشرية مباشرة، أو قوة حيوانية.
القوة الدافعة: في أبسط صورها، كان يتم ربط عصا طويلة بالرحى، ويقوم شخص أو عدة أشخاص بالدوران حول الجرن، يدفعون الرحى لتدور. أما في المعاصر الأكبر، فكان يتم استخدام حيوانات مثل الحمير أو الثيران لجر العربة التي تحمل الرحى، مما يوفر قوة أكبر ودورانًا أكثر استدامة.
كانت عملية الطحن تتم عن طريق وضع كميات من الزيتون في الجرن، ثم بدء تدوير الرحى. كانت الرحى تسحق ثمار الزيتون، بما في ذلك اللب، والقشور، والبذور. لم يكن الهدف هو سحق البذور بشكل كامل، بل تكسيرها لتسهيل انفصال الزيت. كانت العملية تتطلب وقتًا وجهدًا، وكان العمال يراقبون باستمرار قوام الخليط، ويضيفون المزيد من الزيتون أو يزيلون الخليط المطحون جزئيًا.
التقنيات الميكانيكية البدائية: تطور نحو الكفاءة
مع مرور الوقت، بدأت تظهر بعض التحسينات على المعاصر الحجرية، مما أدى إلى زيادة الكفاءة. تم تصميم رحى أكثر انسيابية، وأحواض ذات أشكال تسمح بجمع الخليط المطحون بشكل أفضل. كما تم تطوير أنظمة لربط الرحى بشكل أكثر فعالية بالقوة الدافعة، سواء كانت بشرية أو حيوانية. في بعض الأحيان، كانت تستخدم أدوات أخرى مساعدة مثل “المذراة” أو “المجرفة” لتقليب الزيتون داخل الجرن، وضمان طحنه بشكل متجانس.
مرحلة العصر والضغط: فصل الذهب عن الشوائب
بعد اكتمال عملية الطحن، نحصل على عجينة زيتون سميكة، تتكون من الزيت، والماء، وبقايا الثمار الصلبة (مثل لب البذور والقشور). هنا تبدأ مرحلة العصر والضغط، وهي المرحلة التي يتم فيها فصل الزيت عن هذه المكونات الأخرى.
الفتائل (أو القواديس): قلب عملية الفصل
كانت “الفتائل” أو “القواديس” هي الأدوات الأساسية في هذه المرحلة. كانت هذه الفتائل عبارة عن أكياس دائرية أو مستطيلة، مصنوعة من ألياف طبيعية قوية ومتينة، مثل شعر الماعز أو الخروف، أو ألياف نباتية مثل القنب. كانت هذه المواد تسمح بمرور الزيت والسائل، بينما تحتجز المواد الصلبة.
كان يتم وضع كميات من عجينة الزيتون المطحونة داخل هذه الفتائل، ثم تُغلق بإحكام. بعد ذلك، كانت هذه الفتائل تُكدس فوق بعضها البعض على منصة خشبية متينة.
المكابس: قوة الضغط لاستخراج الزيت
هنا يأتي دور المكابس، وهي أجهزة تهدف إلى تطبيق ضغط شديد على أكوام الفتائل المحملة بالعجين. كانت هناك أنواع مختلفة من المكابس التقليدية:
المكابس اللولبية (أو السنطرة): وهي النوع الأكثر شيوعًا. تتكون من عمود لولبي ضخم، يتصل بقرص علوي كبير. عند تدوير هذا العمود اللولبي، يضغط القرص العلوي على أكوام الفتائل، مما يجبر الزيت والسائل على الخروج من الفتائل. كان تدوير اللولب يتم غالبًا باستخدام عصي طويلة أو عتلات، ويتطلب قوة كبيرة.
المكابس الرافعة (أو الرافعة): في بعض المناطق، كانت تستخدم مكابس تعتمد على مبدأ الرافعة. كان يتم تثبيت عمود رأسي، وتُربط به رافعة طويلة. عند تطبيق القوة على الرافعة، يتم إنزال ثقل كبير أو عمود ضاغط على الفتائل.
كانت عملية الضغط تتم تدريجيًا، حيث يتم زيادة الضغط ببطء للسماح للزيت والسائل بالتدفق. كان الزيت يخرج من الفتائل ويتجمع في قنوات مخصصة أو أحواض صغيرة أسفل المكبس.
فصل الزيت عن الماء: اللمسة النهائية
كان السائل الذي يخرج من المكبس عبارة عن خليط من زيت الزيتون والماء (ماء الزيتون أو “الطلاء”). كان يتم ترك هذا الخليط ليركد في أوعية كبيرة، عادة ما تكون فخارية أو حجرية. نظرًا لأن الزيت أخف من الماء، فإنه يطفو على السطح. بعد فترة من الركود، كان يتم فصل طبقة الزيت العلوية بعناية فائقة باستخدام مغرفة أو أداة مخصصة، وترك الماء في الأسفل. كانت هذه العملية تتطلب صبرًا ودقة للحصول على زيت نقي قدر الإمكان.
مرحلة التصفية والتخزين: الحفاظ على كنوز الطبيعة
بعد استخلاص الزيت، لم تكن العملية قد انتهت تمامًا. كانت هناك خطوات إضافية ضرورية لضمان جودة الزيت وطول فترة صلاحيته.
التصفية الأولية: إزالة الشوائب المرئية
كان الزيت الناتج عن عملية الفصل الأولية قد يحتوي على بعض الشوائب العالقة، مثل بقايا العجين أو الأوراق الدقيقة. كانت هذه الشوائب تُزال عادة عن طريق تصفية الزيت عبر قطعة قماش نظيفة من الكتان أو القطن، أو أحيانًا عبر طبقات من القش. كانت هذه التصفية بسيطة ولكنها تساهم في تحسين مظهر الزيت.
التخزين: أوعية تحكي قصصًا
كانت طريقة تخزين الزيت تلعب دورًا حاسمًا في الحفاظ على جودته. كانت الأوعية المستخدمة تقليديًا تعتمد على المواد المتوفرة، ومن أبرزها:
الأواني الفخارية: كانت الأواني الفخارية، سواء كانت كبيرة أو صغيرة، هي الخيار الأمثل في كثير من الأحيان. كانت الفخار يسمح ببعض التهوية، ويحمي الزيت من الضوء المباشر، ويساعد في الحفاظ على درجة حرارة معتدلة. كانت هذه الأواني تُغلق بإحكام بسدادات من الفلين أو الخشب، أو تُغطى بقطعة قماش وربطها.
القوارير الزجاجية: في بعض المناطق، وخاصة مع انتشار التجارة، أصبحت القوارير الزجاجية أداة للتخزين، خاصة للكميات الصغيرة أو للاستخدام اليومي. كان الزجاج الشفاف يسمح برؤية الزيت، ولكنه كان يتطلب تخزينًا في أماكن مظلمة.
الجرار الحجرية: كانت الجرار الحجرية الكبيرة تستخدم لتخزين كميات كبيرة من الزيت، خاصة في المعاصر نفسها أو في المخازن المنزلية.
كانت أماكن التخزين تُختار بعناية، لتكون باردة، مظلمة، وجيدة التهوية. كان التعرض للضوء والحرارة من أكبر أعداء زيت الزيتون، حيث يؤدي إلى تأكسده وفقدان نكهته وفوائده.
الحفاظ على الزيت: نصائح الأجداد
كان الأجداد يدركون أن جودة زيت الزيتون تتطلب عناية مستمرة. كانوا ينصحون بتجنب تعريض الزيت للهواء لفترات طويلة، وتنظيف الأواني جيدًا قبل كل استخدام، والتأكد من إغلاقها بإحكام. كما كانوا يفضلون استهلاك الزيت الطازج أولاً، والتأكد من استخدام الزيت في غضون فترة زمنية معقولة للحفاظ على نكهته وقيمته الغذائية.
أهمية عصر الزيتون في الحياة القديمة: ما وراء الغذاء
لم يكن عصر الزيتون مجرد عملية لاستخراج مادة غذائية، بل كان له أبعاد أعمق تمس حياة الناس اليومية بشكل مباشر.
غذاء الأجيال: زيت مبارك على الموائد
كان زيت الزيتون هو المصدر الرئيسي للدهون في النظام الغذائي المتوسطي. استخدم في الطهي، والقلي، والتتبيل، وصناعة الخبز والمعجنات. لم يكن مجرد مادة غذائية، بل كان يُنظر إليه كـ “ذهب سائل”، يمنح القوة والصحة. كانت نكهته المميزة وقيمته الغذائية العالية تجعله عنصرًا أساسيًا في كل وجبة.
صحة وشفاء: زيت يحمل البركات
كانت المعرفة بفوائد زيت الزيتون الصحية راسخة في الثقافة القديمة. استخدم كعلاج للعديد من الأمراض، سواء داخليًا أو خارجيًا. كان يُدهن به الجروح لتسريع التئامها، ويُستخدم في تدليك العضلات الملتهبة، ويُشرب لعلاج مشاكل المعدة. كانت المعتقدات الشعبية تربط زيت الزيتون بالبركة والشفاء، نظرًا لما ورد ذكره في النصوص الدينية والتقاليد القديمة.
إضاءة وظلام: زيت يطرد الظلام
قبل انتشار الكهرباء، كان زيت الزيتون هو الوقود الرئيسي للمصابيح. كانت المصابيح الزيتية تضيء البيوت، والشوارع، والمعابد، والمعالم الدينية، لتطرد الظلام وتوفر الإضاءة اللازمة للحياة اليومية. كان لهذه المصابيح دور ثقافي واجتماعي، حيث كانت تجمع العائلات حولها في المساء.
طقوس وعبادات: زيت مقدس في المناسبات
لعب زيت الزيتون دورًا بارزًا في العديد من الطقوس الدينية والاحتفالات. كان يُستخدم في دهن الكهنة والملوك في بعض الحضارات القديمة، وفي تقديم القرابين للآلهة. كما كان جزءًا لا يتجزأ من احتفالات الزواج والميلاد والمناسبات الهامة الأخرى، حيث يرمز إلى السلام، والخصوبة، والبركة.
صناعات وحرف: زيت يدخل في كل شيء
لم تقتصر استخدامات زيت الزيتون على الغذاء والطب والإضاءة، بل امتدت لتشمل العديد من الصناعات والحرف اليدوية. استخدم في صناعة الصابون التقليدي، الذي كان يُصنع يدويًا ويُعرف بخصائصه المنظفة والمرطبة. كما استخدم في تلميع الأخشاب، وصيانة الجلود، وحتى في بعض مستحضرات التجميل القديمة.
خاتمة: إرث مستمر في عالم متغير
إن الطرق التقليدية لعصر الزيتون، بكل بساطتها وتعقيداتها، هي شهادة على براعة الإنسان وقدرته على تسخير الطبيعة لخدمة حياته. هذه العمليات، التي كانت تتطلب جهدًا بدنيًا كبيرًا ومهارة فائقة، لم تكن مجرد وسيلة لإنتاج الزيت، بل كانت نسيجًا من الثقافة، والتاريخ، والتقاليد. ورغم التطور الهائل في تقنيات عصر الزيتون الحديثة، فإن فهمنا لهذه الطرق القديمة يمنحنا تقديرًا أعمق لهذا “الذهب السائل” الذي رافق البشرية عبر آلاف السنين، وما زال يحمل في طياته الكثير من القصص والحكمة.
