رحلة إلى قلب الأرض: كيف يعمل البركان؟
تُعد البراكين من أروع الظواهر الطبيعية على كوكبنا، فهي تجسيد لقوة الأرض الهائلة وقدرتها على التجدد والتشكل. إن مشاهد الانفجارات البركانية، مع تصاعد سحب الدخان والحمم المتدفقة، تبعث في النفس مزيجًا من الرهبة والإعجاب. لكن وراء هذه العروض الدرامية، تكمن آليات جيولوجية معقدة تحدث في أعماق الأرض، تدفع هذه الصخور المنصهرة إلى السطح. لفهم طريقة عمل البركان، علينا أن نغوص في رحلة استكشافية إلى باطن كوكبنا، لنكشف الأسرار التي تقود إلى هذه الظواهر المذهلة.
1. خزان الصهارة: قلب البركان النابض
في أعماق الأرض، على بعد عشرات أو حتى مئات الكيلومترات تحت سطح القشرة، توجد مناطق ذات درجات حرارة وضغوط عالية بشكل استثنائي. في هذه الظروف القاسية، تتحول الصخور الصلبة إلى سائل لزج يُعرف بالصهارة (Magma). هذه الصهارة ليست مجرد ماء منصهر، بل هي خليط معقد من الصخور المنصهرة، والغبار، والغازات الذائبة، والمعادن المختلفة.
يُشكل خزان الصهارة، أو الغرفة الصهارية، بمثابة مخزن كبير تحت الأرض لهذه الصهارة. يمكن أن يتراوح حجم هذه الخزانات من بضعة كيلومترات مكعبة إلى مئات الكيلومترات المكعبة. تتكون الصهارة في هذه الخزانات نتيجة لعدة عمليات جيولوجية، أبرزها:
- انصهار القشرة القارية أو المحيطية: عندما تتصادم الصفائح التكتونية، قد تنزلق إحداها تحت الأخرى (عملية الاندساس). الحرارة العالية والضغط الناتج عن هذه العملية يؤديان إلى انصهار الصخور المندسة، مكونة الصهارة.
- ارتفاع درجة الحرارة في الوشاح: في بعض المناطق، مثل النقاط الساخنة (Hotspots)، ترتفع كتل ضخمة من الصهارة من أعماق الوشاح إلى الأعلى، مما يؤدي إلى تكون بحيرات من الصهارة تحت القشرة.
- تخفيف الضغط: في بعض الحالات، مثل قمم سلاسل الجبال أو قيعان المحيطات، قد يؤدي تخفيف الضغط على صخور الوشاح إلى انخفاض درجة حرارة انصهارها، مما يسمح لها بالتحول إلى صهارة.
تُعد الغازات الذائبة في الصهارة، مثل بخار الماء وثاني أكسيد الكربون، مكونًا أساسيًا في عملية الثوران البركاني. في أعماق الخزان الصهاري، تكون هذه الغازات ذائبة بسبب الضغط العالي. ولكن مع اقتراب الصهارة من السطح، ينخفض الضغط، مما يسمح للغازات بالتحرر وتكوين فقاعات. هذه الفقاعات تزيد من حجم الصهارة وتقلل من كثافتها، مما يجعلها ترتفع نحو السطح.
2. قنوات الصعود: الشرايين البركانية
الصهارة، بفضل كثافتها الأقل من الصخور المحيطة بها، تبدأ في رحلتها نحو الأعلى. تجد الصهارة مساراتها عبر الشقوق والفواصل الموجودة في القشرة الأرضية. تُعرف هذه المسارات بقنوات الصعود أو أنابيب التغذية (Conduits). قد تكون هذه القنوات بسيطة كأنبوب واحد مستقيم، أو قد تكون شبكة معقدة من الأنفاق المتفرعة.
مع استمرار الصهارة في الصعود، يزداد تأثير الغازات المتحررة. تبدأ فقاعات الغاز بالتمدد، دافعة الصهارة بقوة أكبر نحو الأعلى. هذه العملية تشبه إلى حد كبير فتح زجاجة مشروب غازي؛ حيث يؤدي انخفاض الضغط إلى تحرر الغازات وتطاير السائل.
3. فوهة البركان: بوابة الأرض إلى الخارج
عندما تصل الصهارة إلى السطح، فإنها تخرج عبر فتحة تُعرف بفوهة البركان (Crater). الفوهة هي عبارة عن تجويف على شكل وعاء يقع في قمة البركان، وقد يكون حجمها صغيرًا نسبيًا أو كبيرًا جدًا، يصل إلى كيلومترات في القطر.
أنواع الفوهات البركانية:
- الفوهات المركزة: وهي الفوهات التي تتكون مباشرة فوق قناة الصعود الرئيسية.
- الكالديرات (Calderas): وهي فوهات كبيرة جدًا تتكون عندما تنهار قمة البركان على نفسها بعد تفريغ خزان الصهارة بشكل كبير. تكون الكالديرات غالبًا أوسع بكثير من الفوهات العادية.
تُعد فوهة البركان هي المكان الذي تتجسد فيه قوة البركان، حيث تتدفق الحمم وتتصاعد الأبخرة والأدخنة.
4. الثوران البركاني: لحظة الانفجار العظيم
الثوران البركاني هو الحدث الذي تندفع فيه الصهارة، أو الحمم البركانية (Lava)، والمواد البركانية الأخرى إلى السطح. تعتمد شدة وطبيعة الثوران على عدة عوامل، أبرزها:
- تركيب الصهارة: الصهارة الغنية بالسيليكا (Silica) تميل إلى أن تكون أكثر لزوجة، مما يحبس الغازات ويؤدي إلى ثورانات انفجارية. أما الصهارة ذات السيليكا المنخفضة فتكون أقل لزوجة، مما يسمح للغازات بالهروب بسهولة أكبر، وتنتج ثورانات أكثر هدوءًا.
- كمية الغازات الذائبة: كلما زادت كمية الغازات في الصهارة، زادت احتمالية حدوث ثوران عنيف.
- حجم خزان الصهارة وعمقه: الخزانات الأكبر والأعمق يمكن أن توفر ضغطًا أكبر لدفع الصهارة إلى السطح.
أنماط الثوران البركاني:
هناك عدة أنماط رئيسية للثوران البركاني، تختلف في شدتها وشكلها:
أ. الثوران البازلتي (Hawaiian-style Eruptions):
يتميز هذا النوع من الثوران بتدفقات حمم هادئة ولزجة قليلاً. الغازات تتحرر بسهولة، مما يؤدي إلى انبعاثات مستمرة من الحمم تتدفق على جوانب البركان لتشكل طبقات صلبة. غالبًا ما ترتبط هذه الثورانات بالبراكين الدرعية (Shield Volcanoes) العملاقة.
ب. الثوران الستrombolian (Strombolian Eruptions):
تتميز هذه الثورانات باندفاعات متقطعة من الحمم والرماد. تنفجر فقاعات الغاز بشكل دوري، مما يدفع كتلًا من الصهارة إلى الأعلى. تبدو هذه الثورانات أشبه بانفجارات صغيرة متكررة، وغالبًا ما تكون مصحوبة بصوت هدير مميز.
ج. الثوران الفولكاني (Vulcanian Eruptions):
تكون هذه الثورانات أكثر انفجارية من النوعين السابقين. تتكون الصهارة اللزجة وتحبس الغازات بقوة. عندما يتجاوز الضغط قوة تحمل الصخور، تحدث انفجارات قوية تقذف كميات كبيرة من الرماد والحطام الصخري في الهواء.
د. الثوران البليان (Plinian Eruptions):
وهي أخطر أنواع الثورانات وأكثرها تدميراً. تتسم بانفجارات هائلة تقذف أعمدة ضخمة من الرماد والدخان والغازات إلى ارتفاعات شاهقة في الغلاف الجوي، قد تصل إلى 20 كيلومترًا أو أكثر. هذه الثورانات يمكن أن تدمر أجزاء كبيرة من البركان وتنتج تدفقات فتاتية انتحارية (Pyroclastic flows) سريعة ومدمرة.
هـ. الثوران المائي (Phreatic Eruptions):
تحدث هذه الثورانات عندما تتلامس المياه الجوفية أو مياه بحيرة أو بحر مع الصهارة الساخنة. يؤدي التبخر السريع للمياه إلى انفجار بخاري قوي يقذف الرماد والبخار والصخور، ولكن بدون تدفق للحمم.
5. المواد البركانية: ما الذي يخرج من البركان؟
عندما تثور البراكين، فإنها لا تقذف الحمم فقط، بل تطلق مجموعة متنوعة من المواد التي تلعب دورًا هامًا في تشكيل سطح الأرض:
أ. الحمم البركانية (Lava):
هي الصهارة التي تصل إلى السطح. تختلف خصائص الحمم بناءً على تركيبها الكيميائي ودرجة حرارتها. الحمم البازلتية تكون سائلة وتتدفق لمسافات طويلة، بينما الحمم الريوليتية تكون لزجة وتتشكل على شكل قباب صخرية.
ب. الرماد البركاني (Volcanic Ash):
يتكون الرماد البركاني من جزيئات صغيرة جدًا من الصخور والمعادن والزجاج البركاني، نتجت عن تفتت الصخور أثناء الانفجار. يمكن للرماد البركاني أن ينتقل لمسافات شاسعة مع الرياح، ويسبب مشاكل خطيرة للطيران، ويغطي مساحات واسعة، ويؤثر على الزراعة.
ج. القنابل البركانية (Volcanic Bombs):
وهي كتل أكبر من الصخور المنصهرة أو شبه المنصهرة التي تُقذف من فوهة البركان. أثناء طيرانها في الهواء، قد تتخذ هذه الكتل أشكالًا مختلفة، مثل الأشكال الحلزونية أو شكل “الخبز المحمص”.
د. الغازات البركانية (Volcanic Gases):
تُعد الغازات من المكونات الرئيسية للصهارة، وتُطلق بكميات كبيرة أثناء الثوران. أهم هذه الغازات هي بخار الماء، وثاني أكسيد الكربون، وثاني أكسيد الكبريت. يمكن لهذه الغازات أن تؤثر على الغلاف الجوي والمناخ.
هـ. التدفقات الفتاتية (Pyroclastic Flows):
وهي خليط شديد السرعة من الغازات الساخنة والرماد والحطام الصخري. تتحرك هذه التدفقات بسرعة فائقة على جوانب البركان، وتُعد من أخطر الظواهر البركانية، حيث يمكنها تدمير كل شيء في طريقها.
6. أشكال البراكين: تنوع جيولوجي
تتخذ البراكين أشكالًا مختلفة بناءً على نوع الثوران والمواد التي تقذفها. من أبرز هذه الأشكال:
أ. البراكين الدرعية (Shield Volcanoes):
تتميز هذه البراكين بقاعدتها الواسعة ومنحدراتها اللطيفة، أشبه بدرع محارب مستلقٍ. تتكون نتيجة لتراكم طبقات متعددة من الحمم البازلتية السائلة التي تتدفق لمسافات طويلة. من أمثلتها جبل “ماونا لوا” في هاواي.
ب. المخاريط الطبقية (Stratovolcanoes) أو البراكين المركبة (Composite Volcanoes):
وهي البراكين الأكثر شيوعًا، وتتميز بشكلها المخروطي الكلاسيكي ومنحدراتها الشديدة. تتكون من تراكم طبقات متناوبة من الحمم البركانية المتدفقة والرماد والحطام البركاني. غالبًا ما ترتبط هذه البراكين بثورانات انفجارية. من أمثلتها جبل “فوجي” في اليابان وجبل “سانت هيلينز” في الولايات المتحدة.
ج. المخاريط الرمادية (Cinder Cones):
وهي براكين صغيرة نسبيًا، تتكون من تراكم قطع الحمم المتجمدة (Scoria) والرماد حول فوهة بركانية. تتميز بشكلها المخروطي ومنحدراتها الحادة، ولكنها عادة ما تكون أقصر عمرًا من البراكين الدرعية أو المركبة.
7. دورة حياة البركان: من الولادة إلى السكون
ليست كل البراكين نشطة دائمًا. تمر البراكين بدورات حياة، يمكن تصنيفها إلى:
- البراكين النشطة: وهي البراكين التي شهدت ثورانًا في التاريخ الحديث، أو يُتوقع أن تثور قريبًا.
- البراكين الخاملة: وهي البراكين التي لم تثور منذ فترة طويلة، ولكن يُعتقد أنها قد تثور مرة أخرى في المستقبل.
- البراكين الخامدة: وهي البراكين التي يُعتقد أنها لم تعد قادرة على الثوران مرة أخرى، نظرًا لانقطاع إمدادات الصهارة عنها.
قد تستمر البراكين النشطة في الثوران لآلاف السنين، بينما قد تدخل البراكين الخاملة في سكون طويل جدًا قبل أن تعود للحياة.
8. تأثيرات البراكين: دمار وتجدد
للبراكين تأثيرات كبيرة على البيئة والمناخ والحياة البشرية، تتراوح بين الكوارث المدمرة والفوائد الجوهرية:
التأثيرات السلبية:
- الكوارث الطبيعية: ثورانات الحمم، والتدفقات الفتاتية، والانهيارات الطينية (Lahars)، وانبعاثات الغازات السامة، كلها كوارث يمكن أن تدمر المدن والقرى، وتقتل الآلاف، وتسبب خسائر اقتصادية فادحة.
- التأثير على المناخ: كميات كبيرة من الرماد والغازات، خاصة ثاني أكسيد الكبريت، يمكن أن تصل إلى الغلاف الجوي العلوي، وتؤدي إلى تبريد مؤقت للكوكب عن طريق حجب أشعة الشمس.
- تلوث الهواء والماء: الرماد البركاني والغازات يمكن أن تلوث الهواء والمسطحات المائية، مما يؤثر على صحة الإنسان والحيوان والنبات.
التأثيرات الإيجابية:
- تكوين أراضٍ جديدة: تدفقات الحمم البركانية تصلب لتشكل أراضٍ جديدة، خاصة في المناطق الساحلية والجزر، مما يوسع المساحات الصالحة للسكن والزراعة.
- خصوبة التربة: الرماد البركاني، على الرغم من خطورته الأولية، غني بالمعادن المغذية. مع مرور الوقت، يتحلل الرماد ليُشكل تربة خصبة للغاية، مثالية للزراعة.
- مصدر للطاقة الحرارية الجوفية: المناطق البركانية غنية بالحرارة الجوفية، والتي يمكن استغلالها لتوليد الطاقة الكهربائية (الطاقة الحرارية الجوفية).
- الموارد المعدنية: غالبًا ما ترتبط الأنشطة البركانية بوجود رواسب معدنية قيمة.
في الختام، تُعد البراكين دليلًا حيًا على ديناميكية كوكبنا. فهم طريقة عملها ليس مجرد فضول علمي، بل هو ضرورة لفهم العمليات الجيولوجية التي تشكل الأرض، وللتنبؤ بالظواهر الخطيرة، ولاستغلال الموارد التي توفرها هذه الظواهر الطبيعية المذهلة. إنها تذكير دائم بقوة الطبيعة الهائلة، وقدرتها على التدمير والخلق في آن واحد.
