تجربتي مع طريقة فتل المفتول الغزاوي: هذه الوصفة السحرية التي أثبتت جدواها — جربوها وسوف تشعرون بالفرق!

فن صناعة المفتول الغزاوي: رحلة عبر الزمن والتراث

في قلب غزة النابض بالحياة، حيث تتشابك خيوط التاريخ مع عبق المطبخ الأصيل، تكمن أسرار وصفة تتوارثها الأجيال، وتُعدّ بحقّ تاج المائدة الفلسطينية، إنها “المفتول الغزاوي”. هذه الأكلة الشعبية، التي تتجاوز كونها مجرد طبق طعام لتصبح رمزاً للتلاحم الأسري والاحتفاء بالمناسبات، تحمل في طياتها قصة طويلة من الإبداع والصبر والمهارة. إن طريقة فتل المفتول الغزاوي ليست مجرد خطوات تُتبع، بل هي فنٌّ بحد ذاته، يتطلب فهماً عميقاً للمكونات، ودقة في التنفيذ، وشغفاً حقيقياً بالحفاظ على هذا التراث الغذائي الفريد.

أصل الحكاية: جذور المفتول في التاريخ الفلسطيني

قبل الغوص في تفاصيل كيفية إعداد المفتول، من الضروري أن نلقي نظرة على جذوره التاريخية. يُعتقد أن المفتول يعود إلى قرون طويلة، وقد تطور عبر الزمن ليأخذ شكله الحالي المميز في فلسطين، وتحديداً في قطاع غزة. تشير الأبحاث إلى أن تقنية تحضير حبّات البرغل الصغيرة هذه، وفتلها يدوياً، قد تكون تطورت كطريقة فعالة لتخزين الحبوب، وتسهيل طهيها، وتزويدها بقيمة غذائية أعلى. لم يكن المفتول مجرد طعام، بل كان وسيلة للبقاء، يعكس براعة المرأة الفلسطينية وقدرتها على تحويل أبسط المكونات إلى وجبة شهية ومغذية.

المكونات الأساسية: بساطة في الظاهر، عمق في الجوهر

تعتمد طريقة فتل المفتول الغزاوي على مكونات بسيطة ومتوفرة، لكن التوازن بينها هو سر النجاح.

البرغل: قلب المفتول النابض

يُعدّ البرغل، أو ما يُعرف محلياً بـ “البرغل الخشن”، المكون الأساسي والأكثر أهمية في صناعة المفتول. يتم اختيار البرغل ذي الجودة العالية، والذي يتميز بحبّاته المتماسكة والمتوسطة الحجم. لا يُفضل استخدام البرغل الناعم جداً لأنه قد يؤدي إلى تكتل العجين، ولا الخشن جداً لأنه قد يصعب فتله. يُغسل البرغل عادةً بالماء البارد ثم يُصفى جيداً، وهذه خطوة أولية تهدف إلى التخلص من أي شوائب ولتجهيزه لعملية الفتل.

الطحين: الرابط السحري

يُضاف الطحين الأبيض العادي، أو ما يُعرف محلياً بـ “الطحين الصفر”، إلى البرغل. يعمل الطحين كمادة رابطة، حيث يساعد على تماسك حبّات البرغل معاً لتشكيل الكرات الصغيرة المميزة للمفتول. تُستخدم كمية مدروسة من الطحين، فزيادته قد تجعل المفتول قاسياً، وقلته قد تتسبب في تفككه.

الماء والملح: لمسة من النكهة والرطوبة

يُضاف الماء البارد تدريجياً، بكميات قليلة، للمساعدة في عجن البرغل والطحين. يجب أن تكون كمية الماء كافية لترطيب الخليط دون أن يجعله سائلاً. ويُضاف الملح لتعزيز النكهة وإبراز طعم المفتول النهائي.

العملية اليدوية: سيمفونية الفتل والغزل

هنا يكمن سحر المفتول الغزاوي، في العملية اليدوية التي تتطلب صبراً ودقة ومهارة. تُقسم عملية الفتل إلى عدة مراحل رئيسية:

المرحلة الأولى: العجن والتجميع

بعد خلط البرغل والطحين والملح، يبدأ العجن. تُضاف كميات قليلة من الماء البارد تدريجياً مع الاستمرار في الخلط والفرك بين راحتي اليدين. الهدف هو الحصول على عجينة متماسكة، بحيث تتجمع حبّات البرغل وتتغطى بالطحين، لكنها لا تزال منفصلة عن بعضها البعض. هذه المرحلة تحتاج إلى لمسة دقيقة؛ فالطحين يجب أن يتغلف بحبات البرغل جيداً، ولكن دون أن تتكون عجينة متجانسة كعجينة الخبز.

المرحلة الثانية: الفتل الأولي (التنخيل)

بعد الحصول على الخليط المتماسك، تبدأ عملية “الفتل الأولي”. تُمسك كمية صغيرة من الخليط بين راحتي اليدين، ثم تُفرك بحركة دائرية وسريعة. هذه الحركة تساعد على تشكيل كل حبة برغل لتلتصق بها المزيد من جزيئات الطحين، وتتشكل ما يشبه “حبات صغيرة” منفصلة. تُستخدم عادةً “منخل” أو “غربال” خاص لهذه المرحلة، حيث يتم وضع الخليط فيه وتركه ينساب عبر فتحاته، مما يساعد على فصل الحبات المتكتلة وتشكيلها بشكل أفضل. قد تُكرر هذه العملية عدة مرات، مع إضافة القليل من الطحين إذا لزم الأمر، للتأكد من أن كل حبة برغل مغلفة بطبقة جيدة من الطحين.

المرحلة الثالثة: الفتل الدقيق (التدوير)

هذه هي المرحلة الأكثر أهمية وتتطلب مهارة فائقة. بعد الحصول على الحبات الأولية، تبدأ عملية “الفتل الدقيق” أو “التدوير”. تُؤخذ كمية صغيرة من الحبات المفتولة، وتُوضع بين راحتي اليدين، ثم تُفرك بحركة دائرية لطيفة. الهدف هو جعل كل حبة برغل تتكور وتصبح ناعمة ومستديرة، مع الاحتفاظ ببعض المسامات التي تسمح للبخار بالتغلغل أثناء الطهي. هذه الحركة تتطلب ضغطاً خفيفاً ودقيقاً، بحيث لا تتكسر الحبات ولا تلتصق ببعضها البعض بقوة. تُكرر هذه العملية على دفعات صغيرة حتى يتم فتْل كل كمية البرغل.

المرحلة الرابعة: التجفيف الأولي

بعد الانتهاء من عملية الفتل، تُفرد المفتول على قطعة قماش نظيفة أو صينية واسعة في مكان جيد التهوية ليجف قليلاً. هذه الخطوة تساعد على تماسك الحبات ومنعها من الالتصاق ببعضها البعض عند التخزين أو الطهي.

التجهيز للطهي: إعداد المرق واللحم

لا تكتمل وصفة المفتول الغزاوي دون مرق غني ولحم طري. تُعدّ هذه المكونات جزءاً لا يتجزأ من تجربة المفتول، وتُضفي عليه نكهته المميزة.

المرق: روح الطبق

يُحضر المرق عادةً من لحم الضأن أو الدجاج، مع إضافة مجموعة من الخضروات العطرية مثل البصل، والكوسا، والجزر، والحمص. تُطهى هذه المكونات معاً في الماء حتى ينضج اللحم وتتكون مرقة دسمة وغنية بالنكهة. تُضاف التوابل مثل الكمون، والفلفل الأسود، والكزبرة المطحونة لإضفاء عمق على النكهة.

اللحم: بركة المائدة

يُطهى اللحم (سواء كان ضأن أو دجاج) بشكل منفصل أو مع المرق، ويُقدم بجانب طبق المفتول. تُفضل قطع اللحم الطرية التي تذوب في الفم، وتُشكل عنصراً أساسياً في هذه الوجبة الدسمة.

الطهي بالبخار: سر القوام المثالي

تُطهى المفتول الغزاوي بطريقة مميزة تعتمد على البخار، وهي تقنية تُعرف بـ “التبخير” أو “التسقيع”.

استخدام القدر الخاص (القدرين):

تُستخدم عادةً قدران خاصان لهذا الغرض. القدر السفلي يُملأ بالمرق أو الماء، والقدر العلوي، الذي يحتوي على ثقوب في قاعه، يُوضع فوق القدر السفلي. يُوضع المفتول الجاف في القدر العلوي، ثم يُغطى بإحكام.

عملية التبخير:

عندما يبدأ المرق في القدر السفلي بالغليان، يتصاعد البخار عبر الثقوب في القدر العلوي، فيطهو المفتول تدريجياً. تُكرر هذه العملية عادةً مرتين أو ثلاث مرات، مع إضافة القليل من الماء أو المرق عند الحاجة. في كل مرة، يُقلب المفتول ويُضاف القليل من الزيت أو السمن لمنع الالتصاق وإضفاء اللمعان. هذه العملية تضمن أن يصبح المفتول طرياً، خفيفاً، ومطهواً بشكل متساوٍ.

التقديم: لوحة فنية على المائدة

يُقدم المفتول الغزاوي كطبق رئيسي، حيث يُوضع المفتول المطبوخ في طبق واسع، ويُسكب فوقه المرق الغني بالخضروات، ثم يُزين بقطع اللحم المطبوخ. قد تُضاف بعض المكسرات المحمصة مثل الصنوبر أو اللوز للتزيين وإضافة قرمشة لطيفة. يُقدم ساخناً، وغالباً ما يكون مصحوباً بالسلطات الخضراء أو اللبن.

المفتول الغزاوي: ما وراء الطعام

إن طريقة فتل المفتول الغزاوي هي أكثر من مجرد وصفة؛ إنها تعبير عن الثقافة، والاحتفاء بالتراث، ورمز للتواصل الاجتماعي. في كل مرة تُحضر فيها هذه الوجبة، تتجمع العائلة والأصدقاء، وتُشارك الأحاديث والضحكات، وتُعزز الروابط. إنها تجربة حسية متكاملة، تبدأ بالرائحة الزكية التي تفوح من المطبخ، مروراً بملمس حبات المفتول الناعمة، وصولاً إلى الطعم الغني الذي يترك انطباعاً لا يُنسى.

التحديات وأساليب الحفظ:

في الماضي، كانت عملية فتل المفتول تستغرق وقتاً طويلاً وتتطلب جهداً بدنياً كبيراً، وغالباً ما كانت تُشارك فيها نساء العائلة. أما اليوم، فقد ظهرت بعض الأدوات والآلات التي تساعد في تسريع العملية، لكن الروح الأصلية واللمسة اليدوية لا تزال هي الأهم. فيما يتعلق بالحفظ، يمكن تجفيف المفتول جيداً ثم تخزينه في أكياس محكمة الإغلاق في مكان بارد وجاف. كما يمكن تجميده بعد طهيه جزئياً.

الابتكار والتنوع:

رغم أن المفتول الغزاوي له أصوله وتقاليده، إلا أن هناك دائماً مجالاً للابتكار. فبعض الوصفات الحديثة قد تُضيف لمسات جديدة على المرق أو تُجرب أنواعاً مختلفة من الخضروات، ولكن جوهر المفتول وطريقة فتله الأساسية تظل كما هي، محافظة على هويتها الأصيلة.

خاتمة: إرث يستحق الاحتفاء

في نهاية المطاف، تبقى طريقة فتل المفتول الغزاوي فناً متوارثاً، وشهادة على أصالة المطبخ الفلسطيني. إنها دعوة للاحتفاء بهذا الإرث الغني، وللحفاظ على تقاليده، ولتذوق نكهة التاريخ التي تحملها كل حبة من هذه الحبوب الصغيرة. إنها ليست مجرد وصفة، بل هي قصة حب للكرم، وللتراث، وللأرض.