هل الطبخ بزيت الزيتون مضر؟ تفصيل علمي شامل

لطالما ارتبط زيت الزيتون، وخاصة زيت الزيتون البكر الممتاز، بالصحة والطبخ الصحي. يُنظر إليه على نطاق واسع كواحد من أفضل الزيوت الصحية المتاحة، وهو مكون أساسي في حمية البحر الأبيض المتوسط ​​الشهيرة. ومع ذلك، يثير الاستخدام المتزايد لزيت الزيتون في الطهي، خاصة عند درجات حرارة مرتفعة، تساؤلات حول ما إذا كان الطبخ به قد يكون مضرًا بالصحة. هل يمكن لواحد من أثمن الزيوت أن يتحول إلى عدو عند تعرضه للحرارة؟ هذا المقال يتعمق في الأدلة العلمية لفهم التأثيرات الحقيقية للطبخ بزيت الزيتون، مستكشفًا نقاط قوته وضعفه عندما يتعلق الأمر بتطبيقات الطهي المختلفة.

فهم زيت الزيتون: تركيبه الكيميائي وأساسياته الصحية

قبل الخوض في تأثيرات الطبخ، من الضروري فهم ما الذي يجعل زيت الزيتون مميزًا. يتكون زيت الزيتون بشكل أساسي من الدهون الأحادية غير المشبعة (MUFAs)، وخاصة حمض الأوليك. هذه الدهون صحية للقلب وتُعرف بقدرتها على خفض الكوليسترول الضار (LDL) ورفع الكوليسترول الجيد (HDL). بالإضافة إلى ذلك، يحتوي زيت الزيتون على مركبات بوليفينولية قوية، وهي مضادات للأكسدة تمنح زيت الزيتون البكر الممتاز نكهته المميزة وفوائده الصحية العديدة، بما في ذلك خصائصه المضادة للالتهابات والمضادة للأكسدة.

الدهون الأحادية غير المشبعة: بطل القلب

تُعد الدهون الأحادية غير المشبعة هي السمة المميزة لزيت الزيتون. على عكس الدهون المشبعة، فإنها تحافظ على سيولتها في درجة حرارة الغرفة، مما يسهل على الجسم استخدامها. أظهرت الدراسات مرارًا وتكرارًا أن استبدال الدهون المشبعة بالدهون الأحادية غير المشبعة في النظام الغذائي يمكن أن يحسن ملف الدهون في الدم، ويقلل من خطر الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية، ويدعم التحكم في نسبة السكر في الدم.

مضادات الأكسدة والبوليفينولات: درع الصحة

تُعتبر البوليفينولات الموجودة في زيت الزيتون، مثل الأوليورين، والهيدروكسي إيروسول، والكيوربيتان، من أهم مكوناته الصحية. تعمل هذه المركبات كمضادات للأكسدة قوية، تحمي الخلايا من التلف الناتج عن الجذور الحرة. كما أن لها تأثيرات مضادة للالتهابات، والتي قد تلعب دورًا في الوقاية من الأمراض المزمنة مثل السرطان وأمراض التنكس العصبي.

الطبخ والحرارة: تحدي زيوت الطهي

عند تسخين الزيت، خاصة عند درجات حرارة عالية، يمكن أن تحدث عمليات كيميائية تغير من تركيبه وتؤثر على فوائده الصحية. أهم هذه العمليات هي:

1. نقطة الدخان (Smoke Point):

هي درجة الحرارة التي يبدأ عندها الزيت في إطلاق دخان مرئي. عند الوصول إلى نقطة الدخان، تبدأ الدهون في التفكك، مما ينتج عنه مركبات ضارة، بما في ذلك الألدهيدات. الألدهيدات هي مركبات قد تكون سامة وتُربط بزيادة خطر الإصابة بالسرطان وأمراض القلب.

2. الأكسدة (Oxidation):

عند تعرض الزيت للحرارة والأكسجين، يمكن أن يتأكسد. هذا يعني أن جزيئات الدهون تبدأ في التفاعل مع الأكسجين، مما يؤدي إلى تكوين مركبات بيروكسيد. هذه المركبات يمكن أن تكون ضارة بالصحة وتؤثر سلبًا على نكهة الزيت.

3. التفكك الحراري (Thermal Degradation):

يشير إلى التفكك العام لجزيئات الزيت بسبب الحرارة. يمكن أن يؤدي هذا إلى فقدان العناصر الغذائية المفيدة وتكوين مركبات غير مرغوب فيها.

زيت الزيتون والطبخ: ما تقوله الأبحاث

لطالما كان هناك جدل حول ما إذا كان زيت الزيتون يتحمل درجات الحرارة العالية بشكل جيد. تختلف آراء الخبراء، لكن الأبحاث الحديثة تقدم رؤى واضحة.

نقطة دخان زيت الزيتون

تختلف نقطة دخان زيت الزيتون اعتمادًا على نوعه. زيت الزيتون البكر الممتاز (Extra Virgin Olive Oil – EVOO)، وهو أقل معالجة ويحتوي على أعلى نسبة من البوليفينولات، يميل إلى أن تكون نقطة دخانه أقل نسبيًا مقارنة بأنواع الزيوت الأخرى. تتراوح نقطة دخانه عادة بين 190-207 درجة مئوية (374-405 درجة فهرنهايت). في المقابل، زيت الزيتون المكرر (Refined Olive Oil) أو زيت الزيتون العادي (Pure Olive Oil) له نقطة دخان أعلى (حوالي 210-240 درجة مئوية أو 410-464 درجة فهرنهايت) لأنه تمت إزالة معظم الشوائب والبوليفينولات منه.

مقاومة زيت الزيتون للحرارة

رغم أن نقطة دخان زيت الزيتون البكر الممتاز ليست الأعلى، إلا أنه يظهر مقاومة جيدة للحرارة مقارنة بالزيوت التي تحتوي على نسبة عالية من الدهون المتعددة غير المشبعة (مثل زيت عباد الشمس وزيت الذرة). السبب في ذلك يعود إلى:

ارتفاع نسبة الدهون الأحادية غير المشبعة: هذه الدهون أكثر استقرارًا حراريًا من الدهون المتعددة غير المشبعة.
وجود مضادات الأكسدة (البوليفينولات): تعمل هذه المركبات كدرع واقٍ للزيت، حيث تحميه من الأكسدة وتؤخر عملية التفكك الحراري. أظهرت الدراسات أن البوليفينولات في زيت الزيتون البكر الممتاز يمكن أن تحميه من الأكسدة حتى عند تسخينه.

دراسات حول الطبخ بزيت الزيتون

أجرت العديد من الدراسات مقارنات بين زيت الزيتون والزيوت الأخرى عند تسخينها. النتائج غالبًا ما تكون مشجعة لزيت الزيتون:

تحلل أقل للمركبات الضارة: وجدت دراسات أن زيت الزيتون البكر الممتاز ينتج كميات أقل من الألدهيدات والمنتجات السامة الأخرى عند تسخينه إلى درجات حرارة الطهي الشائعة مقارنة بزيوت أخرى غنية بالدهون المتعددة غير المشبعة.
الحفاظ على مضادات الأكسدة: على الرغم من أن بعض البوليفينولات قد تتفكك عند التسخين، إلا أن زيت الزيتون البكر الممتاز يحتفظ بجزء كبير من خصائصه المضادة للأكسدة حتى بعد الطهي.
الطهي العميق (Deep Frying): حتى عند استخدامه في القلي العميق، والذي يتطلب درجات حرارة عالية، أظهر زيت الزيتون البكر الممتاز أداءً جيدًا نسبيًا، مع إنتاج مركبات أقل ضررًا مقارنة بزيوت أخرى. ومع ذلك، يفضل تجنب القلي العميق بشكل عام لجميع أنواع الزيوت لأسباب صحية.

متى يكون الطبخ بزيت الزيتون مضرًا؟

على الرغم من المقاومة النسبية لزيت الزيتون للحرارة، إلا أن هناك ظروفًا يمكن أن تجعل استخدامه في الطهي مضرًا:

1. درجات الحرارة المفرطة (Overheating):

إذا تم تسخين زيت الزيتون، وخاصة البكر الممتاز، إلى ما بعد نقطة دخانه لفترة طويلة، فإنه سيبدأ في التفكك وإطلاق مركبات ضارة. هذا ينطبق على أي زيت.

2. تكرار الاستخدام (Reheating):

إعادة تسخين الزيت المستخدم في القلي عدة مرات يزيد من تركيز المركبات الضارة فيه. لذلك، يُنصح بتجنب إعادة استخدام زيت القلي.

3. أنواع زيت الزيتون المختلفة:

زيت الزيتون المكرر أو الخفيف (Light Olive Oil) له نقطة دخان أعلى، لكنه يفتقر إلى مضادات الأكسدة المفيدة الموجودة في زيت الزيتون البكر الممتاز. لذلك، عند اختيار زيت للطهي، يجب الموازنة بين نقطة الدخان والفوائد الصحية.

4. طرق الطهي:

الطهي السريع على نار متوسطة أو عالية (مثل القلي السريع أو الشوي) يكون أقل ضررًا من القلي العميق الذي يتطلب الحفاظ على درجة حرارة عالية لفترة طويلة.

التوصيات العلمية لاستخدام زيت الزيتون في الطهي

بناءً على الأدلة العلمية، يمكن استخلاص التوصيات التالية:

1. اختيار زيت الزيتون المناسب:

للسلطات والتتبيلات والطهي على البارد: استخدم زيت الزيتون البكر الممتاز (EVOO) بأعلى جودة للاستفادة الكاملة من نكهته وفوائده الصحية.
للقلي السريع والطهي على نار متوسطة: زيت الزيتون البكر الممتاز لا يزال خيارًا جيدًا. نظرًا لاحتوائه على مضادات الأكسدة، يمكنه تحمل هذه الدرجات الحرارية بشكل أفضل من العديد من الزيوت الأخرى.
للقلي العميق أو الطهي على درجات حرارة عالية جدًا: قد يكون زيت الزيتون العادي (المكرر) أو زيت الزيتون الخفيف خيارًا أفضل من حيث نقطة الدخان، لكنه يوفر فوائد صحية أقل. ومع ذلك، يفضل عمومًا تجنب القلي العميق كطريقة طهي منتظمة.

2. التحكم في درجة الحرارة:

تجنب تسخين زيت الزيتون إلى درجة دخانه. إذا بدأ الزيت في التدخين، فهذا يعني أنه وصل إلى نقطة التفكك ويجب إزالته من النار.

3. استخدام الكمية المناسبة:

لا تحتاج إلى استخدام كميات هائلة من زيت الزيتون. في العديد من الوصفات، يمكن استخدام كميات معتدلة لتحقيق النكهة والفوائد.

4. التنوع في زيوت الطهي:

لا تعتمد على نوع واحد فقط من الزيوت. يمكن أن يكون تنويع استخدام الزيوت في نظامك الغذائي، بما في ذلك زيت الزيتون، وزيت الأفوكادو، وزيت جوز الهند (باعتدال)، مفيدًا.

5. تخزين زيت الزيتون بشكل صحيح:

يجب تخزين زيت الزيتون في مكان بارد ومظلم بعيدًا عن الضوء والحرارة لمنع أكسدته وتدهوره.

خاتمة: زيت الزيتون يبقى خيارًا صحيًا عند استخدامه بحكمة

في الختام، فإن الادعاء بأن الطبخ بزيت الزيتون مضر هو تبسيط مفرط وغير دقيق. الأدلة العلمية تشير بقوة إلى أن زيت الزيتون، وخاصة البكر الممتاز، هو أحد أكثر الزيوت الصحية والمتسامحة مع الحرارة عند استخدامه بشكل صحيح. إن محتواه العالي من الدهون الأحادية غير المشبعة ووجود مضادات الأكسدة القوية يمنحانه ميزة على العديد من الزيوت الأخرى في تطبيقات الطهي المختلفة.

المفتاح هو فهم خصائص زيت الزيتون، وخاصة نقطة دخانه، واستخدامه ضمن نطاقاته المناسبة. عندما يتم تسخينه بشكل معقول، فإنه لا يتحول إلى مادة ضارة، بل يمكن أن يظل مصدرًا للفوائد الصحية. لذا، استمر في الاستمتاع بزيت الزيتون في مطبخك، ولكن افعل ذلك بوعي وبحكمة، واختر زيت الزيتون البكر الممتاز لمعظم استخداماتك، وتجنب تعريضه للحرارة المفرطة أو تكرار استخدامه.