من أين صنع القطران؟ رحلة عبر التاريخ والطبيعة والابتكار

لطالما شغل القطران، ذلك السائل الأسود اللزج، خيال الإنسان عبر العصور. ما هو مصدره؟ كيف توصل الإنسان إلى اكتشافه واستخدامه؟ ولماذا استمر في لعب دور حيوي في حضاراتنا؟ إن الإجابة على سؤال “من أين صنع القطران؟” ليست بسيطة، فهي تتشعب عبر تاريخ طويل، وتمتد من أعماق الأرض الطبيعية إلى أفران الصناعة المبتكرة، مروراً بمراحل استخلاص وتكرير شهدت تطورات مذهلة. إنها قصة تتداخل فيها جيولوجيا كوكبنا مع براعة الإنسان في تسخير موارده.

القطران الطبيعي: هبة الأرض الصامتة

قبل أن يفكر الإنسان في تصنيع القطران، كانت الطبيعة هي المصنع الأساسي له. يتواجد القطران بشكل طبيعي في صورة رواسب أو بحيرات نفطية، وهو نتاج لعمليات جيولوجية معقدة استمرت لملايين السنين.

النفط الخام: الأصل الجوهري

في جوهره، القطران الطبيعي هو جزء من النفط الخام. يتكون النفط الخام نفسه من بقايا كائنات عضوية دقيقة – نباتات وحيوانات بحرية – عاشت وماتت منذ ملايين السنين. عندما غرقت هذه الكائنات في قيعان البحار والمحيطات، تراكمت فوقها طبقات من الرواسب والطين. تحت ضغط وحرارة هائلين استمرا لفترات زمنية جيولوجية، تحولت هذه المواد العضوية إلى هيدروكربونات سائلة وغازية، عرفت لاحقاً بالنفط الخام.

القطران كناتج متحلل

القطران، أو ما يعرف أحياناً بالبيتومين أو الأسفلت الطبيعي، هو أحد المكونات الثقيلة واللزجة للنفط الخام. في بعض الحالات، يتكون القطران بشكل طبيعي نتيجة لتبخر المكونات الخفيفة (مثل البنزين والديزل) من رواسب النفط الخام المكشوفة على سطح الأرض. هذه العمليات الطبيعية، التي تحدث في مناطق غنية بالنفط، تؤدي إلى تركيز المواد الثقيلة واللزجة، وهي القطران.

مواقع التواجد الطبيعي

تنتشر رواسب القطران الطبيعي في مناطق مختلفة حول العالم، وغالباً ما تكون مرتبطة بحقول النفط. من أشهر الأمثلة على ذلك “بحيرة الأسفلت” في ترينيداد وتوباغو، وهي بحيرة أسفلت طبيعية ضخمة تعد من أكبر المصادر المعروفة للقطران الطبيعي. كما توجد رواسب أخرى في مناطق مثل كندا (مثل رمال القطران في ألبرتا)، والولايات المتحدة (مثل بحيرة بيرش في يوتا)، وفنزويلا، وإسرائيل (مثل بحيرة طبريا التي تحيط بها رواسب البيتومين). هذه المواقع تمثل شاهدًا صامتًا على العمليات الطبيعية الهائلة التي تشكل كوكبنا.

القطران المصنع: ثورة صناعية وابتكار بشري

مع تزايد الحاجة إلى القطران وتطبيقاته المتنوعة، لم يعد الاعتماد على المصادر الطبيعية وحدها كافياً. هنا، برز دور الإنسان في ابتكار طرق لاستخلاص القطران وتصنيعه من مصادر أخرى، وعلى رأسها النفط الخام.

التقطير التجزيئي للنفط الخام: الأساس الصناعي

المنبع الرئيسي للقطران المصنع اليوم هو عملية التقطير التجزيئي للنفط الخام في المصافي. عندما يصل النفط الخام إلى المصفاة، يخضع لعملية تسخين شديد في أبراج التقطير.

عملية التقطير

في برج التقطير، يتم تسخين النفط الخام إلى درجات حرارة عالية جداً، مما يؤدي إلى تبخر مكوناته المختلفة. هذه المكونات، التي لها درجات غليان مختلفة، تصعد في البرج. عندما تصل الأبخرة إلى درجات حرارة أقل في أجزاء مختلفة من البرج، تتكثف.

فصل المكونات

يتم تجميع هذه المكونات المكثفة في صواني مختلفة في البرج. أخف المكونات، مثل الغازات البترولية والنافثا، تتكثف في الأجزاء العليا من البرج، بينما تتكثف المكونات الأثقل، مثل وقود الديزل ووقود الطائرات، في الأجزاء الوسطى. أما المكونات الأثقل والأكثر لزوجة، والتي تشمل زيت الغاز الثقيل وزيت الوقود، فتظل في قاع البرج.

بقايا التقطير

المادة المتبقية في قاع برج التقطير بعد فصل جميع المكونات الأخف هي ما يعرف بـ “بقايا التقطير” أو “المخلفات الثقيلة”. هذه البقايا هي في الأساس مزيج من الهيدروكربونات الثقيلة جداً، والتي تشكل القطران أو الأسفلت المستخدم في الصناعة. تختلف طبيعة وخصائص هذا القطران المصنع اعتماداً على نوع النفط الخام المستخدم وظروف عملية التقطير.

تطبيقات القطران المصنع

القطران المصنع بهذه الطريقة له استخدامات صناعية هائلة، أبرزها:

رصف الطرق: يعتبر الاستخدام الأكثر شيوعاً للقطران هو في صناعة الأسفلت لرصف الطرق. يتم خلط القطران مع الركام (الحصى والرمل) لإنتاج خليط أسفلتي متين ومقاوم للعوامل الجوية، مما يجعله المادة المثلى لتعبيد الطرق والشوارع.
مواد العزل: يستخدم القطران في صناعة مواد العزل المقاومة للماء، مثل أغشية التسقيف والمواد المانعة للتسرب للأسطح والمنشآت.
صناعة الأنابيب: يتم استخدام القطران كطلاء واقٍ للأنابيب المعدنية، خاصة تلك المستخدمة في نقل النفط والغاز، لحمايتها من التآكل والصدأ.
صناعات أخرى: يدخل القطران في صناعة مواد لاصقة، وبعض أنواع الدهانات، ومواد التشحيم، وحتى في بعض الصناعات الكيميائية المتخصصة.

مصادر أخرى للقطران: التطورات الحديثة

على الرغم من أن النفط الخام هو المصدر الرئيسي للقطران المصنع، إلا أن التطورات التكنولوجية دفعت لاستكشاف مصادر أخرى، لا سيما في سياق البحث عن بدائل مستدامة أو الاستفادة من مواد قد تعتبر “نفايات” في عمليات صناعية أخرى.

قطران الفحم: إرث صناعي قديم

قبل أن يصبح النفط الخام المصدر المهيمن، كان قطران الفحم مصدراً هاماً للمواد المشابهة للقطران. يتم الحصول على قطران الفحم كمنتج ثانوي لعملية إنتاج فحم الكوك، وهو فحم عالي الجودة يستخدم في صناعة الصلب.

عملية إنتاج فحم الكوك

عند تسخين الفحم الحجري في غياب الهواء (عملية تعرف بالتقطير الإتلافي)، يتحلل إلى غازات، وسوائل، ومادة صلبة هي فحم الكوك. من بين السوائل المتكونة، يكون هناك قطران الفحم.

خصائص وتطبيقات قطران الفحم

قطران الفحم هو سائل أسود لزج يشبه في خصائصه قطران النفط. تاريخياً، كان يستخدم في رصف الطرق، وفي صناعة مواد العزل، وكمادة خام لاستخلاص مجموعة واسعة من المواد الكيميائية العطرية مثل البنزين، والتولوين، والزيلين، والفينول، والنفثالين، والتي لها استخدامات عديدة في الصناعات الكيميائية والصيدلانية. على الرغم من أن استخدامه في رصف الطرق قد تراجع لصالح قطران النفط، إلا أن قطران الفحم لا يزال مصدراً مهماً لبعض المواد الكيميائية.

القطران من النفايات البلاستيكية: حلول مبتكرة للمستقبل

مع تزايد مشكلة النفايات البلاستيكية، يتجه الباحثون والصناعيون نحو تطوير تقنيات لتحويل هذه النفايات إلى مواد مفيدة، بما في ذلك القطران.

عملية التحلل الحراري (Pyrolysis)

تقنية التحلل الحراري هي إحدى الطرق الواعدة. تتضمن هذه العملية تسخين النفايات البلاستيكية في غياب الأكسجين إلى درجات حرارة عالية. يؤدي هذا التسخين إلى تكسير سلاسل البوليمرات الطويلة في البلاستيك إلى جزيئات أصغر، مما ينتج عنه خليط من الغازات، والسوائل، والمواد الصلبة (الفحم). يمكن أن تحتوي المكونات السائلة الناتجة على مركبات شبيهة بالقطران.

إمكانات واعدة

هذه التقنية لا تساهم فقط في معالجة مشكلة النفايات البلاستيكية، بل توفر أيضاً مصدراً محتملاً للمواد الهيدروكربونية التي يمكن استخدامها في تطبيقات مشابهة لتلك التي يستخدم فيها القطران التقليدي، أو كمواد خام في الصناعات الكيميائية. لا يزال هذا المجال في طور البحث والتطوير، ولكنه يحمل وعداً كبيراً كحل مستدام.

الخلاصة: القطران، مادة حيوية تتطور مع الزمن

من أعماق الأرض، حيث تتكون رواسب النفط الطبيعي على مدى ملايين السنين، إلى مصافي النفط الحديثة التي تفصل مكوناته ببراعة، ومن أفران إنتاج فحم الكوك التي تنتج قطران الفحم، إلى المختبرات التي تبتكر طرقاً لتحويل النفايات البلاستيكية إلى موارد قيمة، يتضح أن القطران ليس مادة ذات مصدر واحد. إنه نتاج عمليات طبيعية وصناعية متعددة، شهدت تطوراً مستمراً عبر التاريخ.

إن رحلة القطران من هبة طبيعية إلى منتج صناعي أساسي، ومن ثم إلى مادة يمكن استخلاصها من مصادر مبتكرة، تعكس قدرة الإنسان على فهم مواده وتكييفها لتلبية احتياجات مجتمعه المتغيرة. سواء كان طبيعياً أو مصنعاً، يظل القطران عنصراً حيوياً في تشكيل عالمنا المادي، من الطرق التي نسير عليها إلى المواد التي تحمي منازلنا، وهو ما يجعله موضوعاً يستحق الاستكشاف والتفهم العميق.