حفظ الطعام في الكويت قديماً: إرث من البراعة والاعتماد على الطبيعة

في زمن لم تكن فيه الثلاجات الكهربائية ولا المجمدات الحديثة متاحة، اعتمد أهل الكويت قديماً على ابتكارات مذهلة وطرق تقليدية ذكية للحفاظ على مؤونتهم من الطعام طازجة وصالحة للأكل لأطول فترة ممكنة. كانت هذه الممارسات، المتجذرة في فهم عميق لبيئة الكويت الصحراوية الساحلية، ليست مجرد ضرورة للبقاء، بل كانت جزءاً لا يتجزأ من ثقافتهم، تعكس براعتهم في التكيف مع الظروف المحيطة واستغلال الموارد الطبيعية المتاحة. إن استكشاف هذه الطرق القديمة يفتح نافذة على عالم مثير للاهتمام، حيث كانت كل حبة تمر، وكل قطعة سمك مجففة، وكل وعاء مملوء بالزيوت، تحكي قصة كفاح وذكاء.

الأسماك: هبة البحر المتجددة

كان البحر المصدر الرئيسي للغذاء في الكويت، وكانت الأسماك وفيرة على مدار العام، مما استلزم إيجاد طرق فعالة للحفاظ عليها، خاصة وأنها مادة سريعة التلف.

التجفيف الشمسي: فن خالد

ربما كانت طريقة التجفيف الشمسي هي الأكثر شيوعاً وانتشاراً لحفظ الأسماك. كانت هذه العملية الفنية تعتمد على قوة الشمس الحارقة ورياح البحر المنعشة. بعد صيد الأسماك، كانت تُشق وتنظف بعناية، ثم تُبسط على “مفارش” خاصة مصنوعة من الخوص أو الأشرعة القديمة، أو تُعلق على حبال في أماكن مكشوفة تتعرض لأشعة الشمس والهواء. كان الصيادون والنساء في البيوت يراقبون الأسماك بعناية، يقلبونها باستمرار لضمان جفافها من جميع الجهات، ويحمونها من الغبار والحشرات.

لم يكن التجفيف مجرد عملية تجفيف بسيطة، بل كان يتطلب معرفة دقيقة بدرجة الحرارة والرطوبة وسرعة الرياح. كانت الأسماك الصغيرة، مثل السهوة والخباط، تجف بسرعة أكبر، بينما تحتاج الأسماك الأكبر حجماً مثل الهامور والينم إلى وقت أطول وربما شق أعمق. النتيجة النهائية كانت أسماكاً صلبة، خفيفة الوزن، ذات طعم مركز، يمكن تخزينها لشهور طويلة، وإعادة ترطيبها بالماء أو الطبخ قبل الاستهلاك. كان السمك المجفف، وخاصة “الفسيخ” (وهو نوع من السمك المجفف والمملح)، عنصراً أساسياً في المطبخ الكويتي، يُقدم كوجبة رئيسية أو كمقبلات شهية.

التمليح: سحر الملح الحافظ

بالإضافة إلى التجفيف، كان الملح يلعب دوراً حيوياً في حفظ الأسماك. كانت الأسماك تُغمر في كميات كبيرة من الملح الخشن، أو تُدلك بالملح جيداً، ثم تُترك في أوعية خاصة أو تُخزن في أماكن باردة وجافة. الملح، بقدرته على سحب الرطوبة وقتل البكتيريا، كان يعمل كمادة حافظة طبيعية قوية، مما يمنح الأسماك عمراً افتراضياً طويلاً. كانت الأسماك المملحة، مثل “القديد”، شائعة الاستخدام، وتُستخدم في العديد من الأطباق الشعبية.

التمر: ذهب الصحراء

التمر، أو “الرطب” في موسمه، كان ولا يزال غذاءً أساسياً في الكويت والمنطقة. نظرًا لارتفاع نسبة السكر فيه، يتمتع التمر بخصائص طبيعية تجعله مقاوماً للتلف نسبيًا، ولكن أهل الكويت طوروا طرقًا لزيادة عمره وتخزينه لفترات أطول.

التجفيف والتكبيس: حفظ القيمة الغذائية

كانت التمور الناضجة، وخاصة الأنواع الأكثر حلاوة ورطوبة، تُجفف جزئيًا تحت أشعة الشمس، ثم تُكبس معًا بإحكام في أوعية خاصة تُعرف بـ “الزنابيل” أو “الحصائر” المصنوعة من سعف النخيل. كانت عملية الكبس هذه تمنع دخول الهواء، مما يقلل من تعرض التمر للأكسدة والرطوبة. يتم وضع طبقات من التمر وتُضغط بشدة، ثم تُغلف بإحكام. كان هذا التمر المكبوّس، الذي يُطلق عليه أحياناً “التبس”، يحتفظ بنكهته وقيمته الغذائية لفترة طويلة، ويُعتبر مصدرًا للطاقة والمغذيات خلال أشهر الشتاء أو الرحلات الطويلة.

التخزين في “العُلب” و”القفاز”: الحماية من العوامل الخارجية

بالإضافة إلى الكبس، كانت التمور تُخزن في أوعية خاصة تُسمى “العُلب” المصنوعة من الفخار أو الخشب، أو في “القفاز” وهي أكياس كبيرة من الخوص. كانت هذه الأوعية توفر حماية إضافية من الحشرات، الفئران، والغبار، وتساعد في الحفاظ على درجة حرارة معتدلة نسبيًا. كانت التمور تُعتبر كنزًا ثمينًا، وكان تخزينها بعناية يعكس أهميتها القصوى في النظام الغذائي.

منتجات الألبان: قيمة غذائية تتطلب عناية فائقة

كانت منتجات الألبان، وخاصة الحليب واللبن والزبدة والسمن، مصادر مهمة للبروتين والدهون. نظرًا لطبيعتها سريعة التلف، تطلبت طرق حفظ مبتكرة.

السمن: ذهب أبيض ذو قيمة عالية

ربما كان السمن هو الإنجاز الأبرز في حفظ منتجات الألبان. كان يتم استخلاص الزبدة من اللبن المخيض، ثم تُغلى هذه الزبدة ببطء على نار هادئة لفترة طويلة، حتى تتبخر معظم الرطوبة وتترسب المواد الصلبة. كان السمن الناتج، ذو اللون الذهبي الرائع والرائحة الزكية، يعتبر مادة حافظة طبيعية بحد ذاته. نسبة الرطوبة المنخفضة فيه تمنع نمو البكتيريا، مما يسمح بتخزينه لسنوات دون أن يفسد. كان السمن يُخزن في أوعية فخارية أو جلدية، ويُستخدم في الطهي، وإضافة نكهة غنية للأطعمة، بل وكان يُستخدم كدواء في بعض الأحيان. كانت عملية صنع السمن تتطلب صبرًا وخبرة، وكانت كل أسرة تفخر بجودة سمنها.

الجميد: تحويل اللبن إلى صخرة غذائية

كان “الجميد” نوعًا من اللبن المجفف، يتم تحضيره عن طريق غلي اللبن، ثم تركيبه ليصبح لبنة كثيفة، ثم تجفيفها حتى تصبح صلبة جدًا. كان هذا المنتج، الذي يشبه الصخور الصلبة، يمكن تخزينه لفترات طويلة جدًا، ويُستخدم في صنع أطباق شهية عند إعادة ترطيبه وطبخه. كانت عملية تحضيره شاقة وتتطلب أيامًا، لكن نتائجه كانت تستحق العناء.

الجبن المجفف: أشكال مختلفة من الحفظ

كانت هناك أيضًا أشكال مختلفة من الجبن المجفف، حيث كان يتم تجفيف اللبنة أو أنواع أخرى من الجبن حتى تفقد معظم رطوبتها، مما يسهل تخزينها. هذه الأجبان المجففة كانت تُبشر أو تُفتت وتُضاف إلى الأطباق لإضفاء نكهة مميزة.

الحبوب والبقوليات: أساس المخزون طويل الأمد

كانت الحبوب مثل القمح والشعير، والبقوليات مثل العدس والحمص، تشكل العمود الفقري للمخزون الغذائي للكثير من الأسر. لضمان استمرار صلاحيتها، تم اتباع طرق دقيقة.

التجفيف والتخزين في “الجواعد” و”الغرابيل”: الحماية من الرطوبة والحشرات

كانت الحبوب والبقوليات تُجفف جيدًا تحت أشعة الشمس للتخلص من أي رطوبة متبقية، ثم تُخزن في أوعية خاصة تُعرف بـ “الجواعد” أو “الغرابيل” المصنوعة من الفخار أو الخشب، والتي كانت تُغلق بإحكام. كانت هذه الأوعية تحمي المحاصيل من الآفات، الفئران، والرطوبة التي قد تسبب العفن أو الإنبات. في بعض الأحيان، كان يتم خلط الحبوب بكميات قليلة من الزيت أو بعض الأعشاب الطبيعية المعروفة بخصائصها الطاردة للحشرات لزيادة الحماية.

التحويل إلى دقيق وسميد: تسهيل الاستخدام

كانت الحبوب تُطحن إلى دقيق أو سميد، سواء في المنزل باستخدام الرحى اليدوية أو بإرسالها إلى المطاحن التقليدية. كان الدقيق والسميد يُخزنان أيضًا في أوعية محكمة الإغلاق، وكان هذا التحويل يسهل عملية الطهي وإعداد الخبز والمعجنات.

الخضروات والفواكه: نضارة موسمية في غير أوانها

لم تكن الخضروات والفواكه متاحة طوال العام في الكويت، لذا كان الحفاظ عليها في غير موسمها تحديًا كبيرًا.

التجفيف: طريقة العصور القديمة

كانت بعض أنواع الفواكه، مثل التين والزبيب (العنب المجفف)، تُجفف ببساطة تحت أشعة الشمس، كما هو الحال مع التمور. أما الخضروات، فكانت أقل شيوعًا في التجفيف، ولكن بعضها مثل البصل والثوم كان يُجفف ويُخزن في أماكن جيدة التهوية.

التخليل: نكهة وقيمة حافظة

كان التخليل طريقة فعالة لحفظ بعض الخضروات، وخاصة الخيار والجزر والفلفل. كانت الخضروات تُغمر في محلول من الملح والخل والتوابل، مما يمنع نمو البكتيريا ويضفي نكهة مميزة. كان المخلل يُعتبر طبقًا جانبيًا شهيًا ومصدرًا للفيتامينات.

التخزين في أماكن باردة وجافة: استغلال الطبيعة

كانت بعض الخضروات الجذرية، مثل البطاطس والبصل، تُخزن في أماكن باردة وجافة، مثل الأقبية أو الغرف المخصصة لذلك، حيث تقل الرطوبة ودرجة الحرارة. كانت هذه الأماكن تساعد على إبطاء عملية التلف.

أساليب إضافية ومبتكرة

لم تقتصر براعة أهل الكويت على الطرق التقليدية المعروفة، بل امتدت لتشمل ابتكارات إضافية.

استخدام الزيوت والدهون: درع واقٍ

كانت الزيوت والدهون، سواء زيت الزيتون (الذي كان يتم استيراده) أو السمن البلدي، تُستخدم في تغطية بعض الأطعمة للحفاظ عليها. على سبيل المثال، كان يمكن غمر بعض أنواع الجبن أو اللحوم المطبوخة في السمن للحماية من الهواء.

اللحوم المحفوظة: رحلة في عالم النكهات

كانت اللحوم، وخاصة لحم الضأن، تُحفظ بطرق مختلفة. بالإضافة إلى التجفيف والتمليح، كان يمكن تقطيع اللحم إلى قطع صغيرة، طهيها ببطء في دهونها الخاصة، ثم حفظها في أوعية مملوءة بالسمن. هذا النوع من اللحم المحفوظ، الذي يُشبه “القديد” ولكن مع دهون إضافية، كان يبقى صالحًا للأكل لفترة طويلة ويُستخدم في إعداد وجبات شهية.

الصقيع الطبيعي: هدية الشتاء (نادرة في الكويت ولكنها كانت تُستغل إن وجدت)

على الرغم من أن الكويت ليست معروفة بالصقيع الشديد، إلا أن الليالي الباردة جدًا كانت تُستغل أحيانًا لتبريد بعض المواد. كانت هناك محاولات لتخزين بعض الأطعمة في أماكن باردة جدًا، ولكن تأثير البرد الطبيعي كان محدودًا مقارنة بالمناطق الأخرى.

الخلاصة: إرث ثقافي حي

إن استعراض هذه الأساليب القديمة لحفظ الطعام في الكويت يكشف عن ثقافة غنية بالمعرفة العملية والاعتماد على البيئة. لم تكن هذه مجرد تقنيات، بل كانت جزءاً من نسيج الحياة اليومية، تتوارثها الأجيال، وتُعدل وتُطور لتلبية احتياجات المجتمع. تعكس هذه الممارسات مرونة الإنسان الكويتي وقدرته على الابتكار والتكيف، وهي تظل شاهدًا على إرث ثقافي لا يُقدر بثمن، يذكرنا بأن البساطة والذكاء يمكن أن يحفظا لنا أثمن ما نملك.