فن استخلاص زيت الزيتون الأسود بالطريقة التقليدية: رحلة عبر الزمن إلى “طاشمان”

لطالما ارتبط الزيتون، هذه الثمرة المباركة، بالحضارات الإنسانية منذ فجر التاريخ، فهو ليس مجرد غذاء، بل رمز للصحة، السلام، والحكمة. ومن بين أصناف الزيتون المتعددة، يحتل الزيتون الأسود مكانة خاصة في قلوب وعادات الكثير من الشعوب، لا سيما في المناطق التي تشتهر بزراعته وإنتاجه. ولكن، ما يميز هذا الزيتون عن غيره، هو الطريقة التي يتم بها استخلاص زيته، وهي طريقة متجذرة في التقاليد الأصيلة، وتُعرف بـ “طاشمان”. هذه الطريقة، التي قد تبدو بسيطة للوهلة الأولى، هي في الواقع نتاج قرون من الخبرة والمعرفة المتوارثة، وهي رحلة تتطلب دقة، صبرًا، وفهمًا عميقًا لطبيعة الزيتون.

إن استخلاص زيت الزيتون الأسود بطريقة “طاشمان” ليس مجرد عملية ميكانيكية، بل هو فن يعكس ارتباط الإنسان بالطبيعة، ورغبته في استخلاص خيراتها بأقصى درجات النقاء والجودة. في هذا المقال، سنغوص في أعماق هذه الطريقة التقليدية، مستكشفين خطواتها، أسرارها، وأهميتها الثقافية والاقتصادية، مع التركيز على الجوانب التي تجعلها فريدة ومميزة.

مقدمة في عالم الزيتون الأسود وأهميته

قبل الخوض في تفاصيل طريقة “طاشمان”، من الضروري أن نفهم القيمة الغذائية والصحية للزيتون الأسود. يمر الزيتون بمراحل نضج مختلفة، وعندما يصل إلى مرحلة النضج الكامل، يتحول لونه إلى الأسود الداكن، وتزداد نسبة الزيت فيه. الزيتون الأسود غني بالأحماض الدهنية الأحادية غير المشبعة، والتي تُعرف بفوائدها الرائعة لصحة القلب والأوعية الدموية، حيث تساعد في خفض مستويات الكوليسترول الضار (LDL) ورفع مستويات الكوليسترول الجيد (HDL). كما أنه مصدر ممتاز لمضادات الأكسدة، مثل فيتامين E والبوليفينول، التي تحمي الجسم من التلف الخلوي وتقلل من خطر الإصابة بالأمراض المزمنة.

تاريخيًا، لم يكن استخلاص الزيت مجرد وسيلة للحصول على مادة غذائية، بل كان جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية، مصدرًا للإضاءة، للطب، وللتجارة. والطريقة التقليدية، مثل “طاشمان”، هي تجسيد حي لهذا الإرث العريق.

تاريخ وأصول طريقة “طاشمان”

تُعد طريقة “طاشمان” من أقدم الطرق المستخدمة لاستخلاص زيت الزيتون، وقد تطورت عبر آلاف السنين في مناطق البحر الأبيض المتوسط، حيث يُزرع الزيتون بكثرة. يعتقد أن أصول هذه الطريقة تعود إلى الحضارات القديمة، كالفينيقيين، الإغريق، والرومان، الذين أتقنوا فن استخلاص الزيت باستخدام أدوات بسيطة ولكن فعالة.

كلمة “طاشمان” بحد ذاتها قد تحمل دلالات لغوية قديمة، تشير إلى العملية نفسها أو إلى الأداة المستخدمة. في جوهرها، تعتمد هذه الطريقة على مبدأ الضغط الميكانيكي لاستخلاص الزيت من ثمار الزيتون. على مر العصور، تطورت الأدوات المستخدمة، من الحجارة الثقيلة التي كانت تُدحرج على الزيتون، إلى الرحى الحجرية التي تُديرها الحيوانات، وصولًا إلى الآلات الأكثر تعقيدًا التي لا تزال تحتفظ بأساسيات الطريقة التقليدية.

إن الأهمية الثقافية لطريقة “طاشمان” لا تقتصر على الجانب الإنتاجي فحسب، بل تمتد لتشمل طقوسًا وعادات اجتماعية. غالبًا ما كانت عملية عصر الزيتون تشكل حدثًا مجتمعيًا، حيث يجتمع أفراد العائلة والأهل والجيران للمساعدة في جمع الثمار، نقلها، والمشاركة في عملية العصر، مما يعزز الروابط الاجتماعية ويحافظ على التراث.

المراحل الأساسية لطريقة كبس الزيتون الأسود علا طاشمان

تتطلب طريقة “طاشمان” سلسلة من الخطوات الدقيقة والمتتابعة لضمان الحصول على زيت زيتون أسود عالي الجودة. يمكن تقسيم هذه العملية إلى عدة مراحل رئيسية:

1. قطف الزيتون الأسود: اختيار الثمار المثالية

تبدأ الرحلة باختيار الزيتون المناسب. يُفضل قطف الزيتون الأسود عندما يصل إلى مرحلة النضج الكامل، حيث تكون قشرته داكنة اللون، وتكون الثمرة طرية نسبيًا عند الضغط عليها. يجب أن تكون الثمار سليمة، خالية من الأمراض أو الآفات، وخالية من أي علامات للتلف.

توقيت القطف: يلعب توقيت القطف دورًا حاسمًا في جودة الزيت. القطف المبكر جدًا قد ينتج زيتًا أقل كمية وذو نكهة حادة، بينما القطف المتأخر جدًا قد يؤدي إلى تدهور جودة الزيت بسبب التخمر أو الأكسدة.
طرق القطف: تُفضل طرق القطف اليدوي للحفاظ على سلامة الثمار وتجنب إتلافها. يمكن استخدام الأمشاط الخاصة أو هز الأشجار بلطف لتساقط الثمار على شبكات ممدودة تحتها.

2. الغسيل والتنظيف: إزالة الشوائب

بعد القطف، تُجمع الثمار وتُوضع في سلال أو أوعية مناسبة. تأتي بعدها مرحلة الغسيل والتنظيف لإزالة أي شوائب عالقة، مثل الأوراق، الأغصان، التراب، أو أي بقايا أخرى.

أهمية التنظيف: يضمن التنظيف الجيد عدم انتقال الشوائب إلى عملية العصر، مما قد يؤثر سلبًا على نقاء الزيت وطعمه، بل وقد يسبب مشاكل في عملية الاستخلاص نفسها.
الأساليب التقليدية: غالبًا ما يتم الغسيل بالماء النظيف، مع تقليب الثمار بلطف لضمان إزالة جميع الشوائب.

3. عملية الهرس أو الطحن: تحطيم بنية الثمار

هذه هي المرحلة الجوهرية التي تبدأ فيها عملية استخلاص الزيت. الهدف من هذه المرحلة هو تحطيم بنية ثمار الزيتون، بما في ذلك اللب والبذور، لكسر الخلايا التي تحتوي على الزيت وإطلاقها.

الرحى الحجرية (الطاحونة): في الطريقة التقليدية، تُستخدم الرحى الحجرية، وهي عبارة عن أقراص حجرية ثقيلة تدور فوق بعضها البعض، أو حجر كبير يدور داخل وعاء حجري. تُوضع ثمار الزيتون المغسولة في الوعاء، وتُدار الرحى ببطء، غالبًا بواسطة قوة بشرية أو حيوانية.
النتيجة: ينتج عن عملية الهرس عجينة زيتونية سميكة ومتجانسة، تُعرف بـ “عجينة الزيتون”، تحتوي على مزيج من الزيت، الماء، وبقايا الثمار الصلبة.

4. التخمير الأولي (التقليب): لزيادة كفاءة استخلاص الزيت

بعد عملية الهرس، لا يتم استخلاص الزيت مباشرة، بل تمر العجينة بمرحلة تقليب أولية. تُترك العجينة في أوعية كبيرة، وتُقلب بشكل دوري.

الهدف من التقليب: يهدف هذا التقليب إلى مساعدة قطرات الزيت الصغيرة المتفرقة داخل العجينة على التجمع والاندماج في قطرات أكبر، مما يسهل عملية استخلاصها لاحقًا. كما أنه يساعد على إطلاق المزيد من الزيت عن طريق تكسير الروابط المتبقية.
المدة والظروف: تختلف مدة التقليب حسب درجة حرارة العجينة والظروف المحيطة، ولكنها عادة ما تكون لعدة ساعات.

5. عملية الكبس (العصر): فصل الزيت عن باقي المكونات

هذه هي المرحلة التي تُعرف بـ “طاشمان” بشكل مباشر. بعد أن تتجمع قطرات الزيت، تُوضع عجينة الزيتون في أكياس أو حصائر خاصة مصنوعة من مواد طبيعية، مثل القش أو ألياف جوز الهند، والتي تتمتع بمسامية تسمح بمرور السائل (الزيت والماء) مع احتجاز المواد الصلبة.

المكابس التقليدية: تُستخدم مكابس هيدروليكية أو ميكانيكية تقليدية. تُكدس هذه الأكياس المحتوية على العجينة فوق بعضها البعض، ثم تُوضع تحت مكبس قوي. يُطبق الضغط تدريجيًا، مما يجبر السائل على الخروج من الأكياس.
المراحل المتعددة للكبس: قد تتطلب العملية عدة جولات من الكبس لضمان استخلاص أكبر كمية ممكنة من الزيت. في كل جولة، يُعاد ترتيب الأكياس وتطبيق ضغط أقوى.
النتيجة: يتدفق سائل مكون من زيت الزيتون والماء إلى أوعية تجميع.

6. فصل الزيت عن الماء: التنقية النهائية

الناتج من عملية الكبس هو خليط من زيت الزيتون والماء، بالإضافة إلى بعض الرواسب الدقيقة. لفصل الزيت عن الماء، تُترك هذه المادة السائلة لتستقر في أوعية مفتوحة لفترة من الزمن.

الاستقرار والفصل الطبيعي: نظرًا لأن كثافة الزيت أقل من كثافة الماء، فإن الزيت يطفو على السطح، بينما يستقر الماء في الأسفل.
التجميع الدقيق: يتم بعد ذلك تجميع الزيت بعناية من على السطح، تاركين الماء والرواسب في الأسفل. في بعض الأحيان، قد تحتاج هذه العملية إلى تكرار لضمان نقاء الزيت.

أهمية الجودة في طريقة “طاشمان”

تُعرف طريقة “طاشمان” بقدرتها على إنتاج زيت زيتون أسود ذو جودة استثنائية، ويرجع ذلك لعدة عوامل:

التعامل اللطيف مع الثمار: على عكس الطرق الحديثة التي قد تستخدم درجات حرارة مرتفعة أو عمليات ميكانيكية قاسية، فإن طريقة “طاشمان” تتميز بالتعامل اللطيف مع الزيتون. هذا يقلل من تأكسد الزيت ويحافظ على مركباته الفينولية القيمة، التي تمنحه نكهته المميزة وفوائده الصحية.
درجات حرارة منخفضة: غالبًا ما تتم عملية العصر في ظل ظروف تسمح بحرارة منخفضة، مما يُصنف الزيت المنتج كـ “زيت زيتون بكر ممتاز” (Extra Virgin Olive Oil)، وهو الأعلى جودة.
الحفاظ على النكهة الأصيلة: تسمح هذه الطريقة بتجسيد النكهة الأصيلة للزيتون الأسود، فهي لا تعتمد على إضافة مواد كيميائية أو معالجات قاسية قد تغير من طعم الزيت.
تقليل الفاقد: على الرغم من أنها قد تكون أقل كفاءة من حيث كمية الزيت المستخلص مقارنة بالطرق الصناعية الحديثة، إلا أن طريقة “طاشمان” تضمن استخلاص زيت نقي بأقل قدر من التلف.

التحديات والحفاظ على طريقة “طاشمان”

على الرغم من مزاياها العديدة، تواجه طريقة “طاشمان” بعض التحديات التي تهدد استمراريتها:

الجهد والوقت: تتطلب هذه الطريقة عمالة مكثفة ووقتًا طويلاً مقارنة بالعمليات الصناعية الآلية.
التكاليف: قد تكون التكاليف الأولية للأدوات والمعدات التقليدية مرتفعة، كما أن الحاجة إلى عمالة ماهرة تزيد من تكلفة الإنتاج.
المنافسة: تواجه هذه الطريقة منافسة شديدة من مصانع الزيت الحديثة التي تتميز بالسرعة والكفاءة العالية في الإنتاج.
التغييرات في الأنماط الزراعية: قد تؤدي التغيرات في ممارسات زراعة الزيتون، مثل استخدام آلات الحصاد الحديثة، إلى صعوبة تطبيق الطرق التقليدية.

ومع ذلك، هناك جهود متزايدة للحفاظ على هذه الطريقة الأصيلة. يتمثل ذلك في:

التوعية بأهميتها: التعريف بفوائد زيت الزيتون المنتج بالطرق التقليدية، سواء من حيث الجودة أو القيمة الثقافية.
دعم المزارعين التقليديين: تشجيع ودعم المزارعين الذين لا يزالون يلتزمون بهذه الطريقة، من خلال توفير الموارد والدعم الفني.
السياحة الزراعية: ربط إنتاج زيت الزيتون بالسياحة، حيث يمكن للزوار تجربة عملية العصر بأنفسهم، مما يعزز الوعي ويخلق سوقًا لهذه المنتجات.
التطوير التدريجي: دمج بعض التقنيات الحديثة التي لا تتعارض مع المبادئ الأساسية للطريقة التقليدية، لزيادة الكفاءة مع الحفاظ على الجودة.

خاتمة: إرث حي في كل قطرة زيت

إن طريقة كبس الزيتون الأسود علا “طاشمان” ليست مجرد وصفة قديمة، بل هي قصة متكاملة عن العلاقة الإنسانية بالأرض، عن الصبر، الدقة، والتقدير العميق لما تقدمه الطبيعة. كل قطرة زيت مستخلصة بهذه الطريقة تحمل معها نكهة الأصالة، عبق التاريخ، وفوائد صحية لا تقدر بثمن. إنها دعوة لإعادة اكتشاف القيمة الحقيقية للمنتجات الطبيعية، وللحفاظ على التراث الغني الذي يميز ثقافاتنا. في عالم يتجه نحو السرعة والإنتاج الضخم، تظل هذه الطرق التقليدية بمثابة تذكير بأن الجودة الحقيقية غالبًا ما تتطلب وقتًا، جهدًا، وشغفًا لا ينضب.