فن تحضير “بين نارين” بعجينة الكنافة: رحلة استكشافية في قلب المطبخ العربي

تُعدّ حلوى “بين نارين” بعجينة الكنافة أيقونة في عالم الحلويات الشرقية، حيث تمتزج فيها نكهات غنية وقوامات متناقضة لتخلق تجربة حسية لا تُنسى. إنها ليست مجرد طبق حلوى، بل هي قصة تُروى عبر الأجيال، تحمل في طياتها عبق التاريخ وروعة التقاليد. تتميز هذه الحلوى بقدرتها على جمع المتناقضات بانسجام مذهل؛ فالقرمشة الذهبية لعجينة الكنافة تتقابل مع الطراوة الغنية للحشوة، بينما ينساب القطر الذهبي ليُكمّل اللوحة الفنية.

إن الغوص في تفاصيل طريقة عمل “بين نارين” بعجينة الكنافة هو بمثابة استكشاف لأسرار المطبخ العربي الأصيل. تبدأ هذه الرحلة من اختيار المكونات الطازجة، مروراً بخطوات التحضير الدقيقة، وصولاً إلى اللمسات النهائية التي تمنحها سحرها الخاص. الهدف ليس فقط إنتاج حلوى لذيذة، بل إتقان فن يجمع بين البساطة والتعقيد، بين المكونات المتوفرة والنتيجة المذهلة.

أولاً: فهم عجينة الكنافة – أساس النجاح

قبل الخوض في تفاصيل “بين نارين”، من الضروري فهم طبيعة عجينة الكنافة نفسها. هذه العجينة الرقيقة، المصنوعة من دقيق القمح والماء، تُعدّ القلب النابض لهذه الحلوى. تتوفر في الأسواق بنوعين رئيسيين: الكنافة الشعرية (الخشنة) والكنافة الناعمة. لكل نوع خصائصه التي تؤثر على القوام النهائي للحلوى.

الكنافة الشعرية (الخشنة):

تتميز الكنافة الشعرية بفتولاتها الطويلة والرقيقة التي تُعطي عند الخبز قواماً مقرمشاً ومميزاً. عند تحضير “بين نارين” بها، غالباً ما تُخلط مع السمن أو الزبدة المذابة لتسهيل تفكيكها وامتصاصها للدهون، مما يضمن الحصول على لون ذهبي موحد وطعم غني. إن قوة تحمل هذه العجينة للحرارة تجعلها خياراً ممتازاً للحصول على طبقة خارجية مقرمشة بشكل استثنائي.

الكنافة الناعمة:

أما الكنافة الناعمة، فتُعطي قواماً أكثر ليونة وتماسكاً. غالباً ما تُستخدم في الوصفات التي تتطلب طبقة علوية ناعمة أو عند الرغبة في مزجها مع مكونات أخرى لإنشاء طبقة متجانسة. عند استخدامها في “بين نارين”، قد تحتاج إلى كمية أقل من السمن أو الزبدة لعدم جعلها دهنية بشكل مفرط، مع التركيز على الحصول على لون ذهبي جميل دون فقدان طراوتها.

اختيار النوع المناسب:

يعتمد اختيار النوع المناسب لعجينة الكنافة على النتيجة المرجوة. إذا كنت تبحث عن القرمشة القصوى، فالكنافة الشعرية هي الخيار الأمثل. أما إذا كنت تفضل قواماً أكثر ليونة وتماسكاً، فالكنافة الناعمة ستكون مناسبة. لا يوجد خيار “أفضل” بشكل مطلق، بل يعتمد الأمر على التفضيل الشخصي والرؤية الفنية للطبق.

ثانياً: حشوات “بين نارين” – تنوع يثري التجربة

يكمن سر تميز “بين نارين” في التناغم بين قرمشة الكنافة وغنى الحشوة. وتتنوع هذه الحشوات بشكل كبير، ولكل منها سحرها الخاص الذي يكمل قوام العجينة.

الحشوة التقليدية بالجبن:

تُعدّ حشوة الجبن هي الأكثر شيوعاً وارتباطاً بحلوى الكنافة بشكل عام، و”بين نارين” بشكل خاص. تتكون عادةً من مزيج من أنواع الجبن الأبيض، مثل العكاوي أو النابلسية، والتي تُغسل جيداً للتخلص من الملوحة الزائدة. يُضاف إليها أحياناً القليل من جبن الموزاريلا أو القشطة لزيادة الطراوة والليونة. عند خبزها، يذوب الجبن ليُشكل طبقة مطاطية دافئة تتناغم بشكل رائع مع قرمشة الكنافة.

حشوة القشطة (الكريمة):

لإضفاء لمسة من الفخامة والطراوة، تُستخدم حشوة القشطة الغنية. تُحضّر هذه القشطة غالباً من الحليب، النشا، وماء الزهر أو ماء الورد، وتُطهى حتى تتكاثف. يمكن إضافة بعض المكسرات المفرومة مثل الفستق الحلبي أو اللوز إلى الحشوة لزيادة القيمة الغذائية والنكهة. هذه الحشوة تمنح “بين نارين” طعماً كريمياً وحلواً يكمل قرمشة الكنافة بشكل متقن.

حشوات مبتكرة:

لا تقتصر حشوات “بين نارين” على التقليدي، بل يمكن الابتكار فيها. يمكن تجربة حشوات بالمكسرات المتنوعة الممزوجة بالعسل أو السكر، أو حتى حشوات بالفواكه المجففة مثل التمر أو المشمش. البعض يفضل إضافة نكهات مثل القرفة أو الهيل إلى الحشوة لتعميق الطعم. هذه الابتكارات تفتح آفاقاً جديدة لتذوق هذه الحلوى الكلاسيكية.

ثالثاً: طريقة التحضير خطوة بخطوة – الدقة والإتقان

إن عملية تحضير “بين نارين” بعجينة الكنافة تتطلب دقة في التفاصيل لضمان الحصول على أفضل نتيجة.

المكونات الأساسية:

عجينة الكنافة: الكمية حسب حجم الصينية المطلوبة.
السمن أو الزبدة المذابة: لجعل العجينة قابلة للتشكيل وإضفاء اللون الذهبي.
الحشوة المختارة: جبن، قشطة، أو مكسرات.
القطر (الشيرة): لتحلية الحلوى بعد الخبز.
للتزيين (اختياري): فستق حلبي مطحون، جوز هند مبشور، أو قشطة إضافية.

الخطوات التفصيلية:

1. تحضير عجينة الكنافة:
إذا كانت الكنافة مجمدة، يجب تركها لتذوب قليلاً.
في وعاء كبير، تُفكك عجينة الكنافة جيداً باليدين للتأكد من عدم وجود كتل.
تُضاف كمية وفيرة من السمن أو الزبدة المذابة إلى العجينة. تُفرك العجينة بالسمن حتى تتغلف كل خصلة منه بشكل متساوٍ. هذه الخطوة حاسمة للحصول على قرمشة ذهبية موحدة.

2. تجهيز الصينية:
تُدهن صينية الخبز بكمية وفيرة من السمن أو الزبدة.
تُوضع نصف كمية عجينة الكنافة المفروكة بالسمن في الصينية.
تُضغط العجينة جيداً وبشكل متساوٍ بقاع الصينية باستخدام اليدين أو قاعدة كوب لإنشاء طبقة سفلية متماسكة. يجب التأكد من تغطية جميع الجوانب بشكل جيد لمنع تسرب الحشوة.

3. إضافة الحشوة:
تُوضع الحشوة المختارة (جبن، قشطة، أو مزيج) فوق الطبقة السفلية من الكنافة.
يجب توزيع الحشوة بشكل متساوٍ، مع ترك مسافة صغيرة حول الأطراف لمنع خروجها أثناء الخبز.
إذا كانت الحشوة جبناً، يُفضل عدم الإفراط فيه لتجنب أن يصبح الطبق دهنياً جداً.

4. تغطية الحشوة:
تُغطى الحشوة بباقي كمية عجينة الكنافة المفروكة بالسمن.
تُضغط الطبقة العلوية برفق لضمان تماسكها مع الحشوة والطبقة السفلية. لا تضغط بشدة لكي لا تصبح العجينة صلبة.

5. الخبز:
تُخبز صينية الكنافة في فرن مسخن مسبقاً على درجة حرارة متوسطة (حوالي 180-200 درجة مئوية).
يُقلب الطبق في منتصف مدة الخبز إذا كان الفرن لا يوزع الحرارة بالتساوي، لضمان اكتساب اللون الذهبي من جميع الجهات.
تُترك الكنافة في الفرن حتى يصبح لونها ذهبياً محمراً من الأعلى والأسفل.

6. تحضير القطر:
في قدر، يُخلط السكر مع الماء وقطرات من عصير الليمون.
يُغلى المزيج على نار متوسطة حتى يتكاثف قليلاً.
يُرفع من على النار وتُضاف إليه ملعقة من ماء الزهر أو ماء الورد.

7. التشريب والتقديم:
بعد إخراج الكنافة من الفرن، وهي لا تزال ساخنة، يُصب عليها القطر الدافئ أو البارد (حسب التفضيل، لكن البارد يعطي قرمشة أكثر).
يُترك القطر ليتشرب جيداً في الكنافة.
تُزين بالمكسرات المطحونة أو حسب الرغبة.
تُقطع وتقدم دافئة.

رابعاً: أسرار وتكات لإتقان “بين نارين”

لتحويل هذه الحلوى من مجرد طبق إلى تحفة فنية، هناك بعض الأسرار والتكات التي يمكن إضافتها:

جودة المكونات:

استخدام سمن بلدي عالي الجودة، جبن طازج، وعجينة كنافة طازجة يفرق بشكل كبير في النكهة النهائية.

درجة حرارة الفرن:

يجب أن يكون الفرن مسخناً مسبقاً لضمان طهي متساوٍ. إذا كان الفرن ساخناً جداً، قد تحترق العجينة من الخارج قبل أن تنضج الحشوة.

كمية السمن:

لا تبخل بالسمن، فهو مفتاح القرمشة واللون الذهبي. لكن في نفس الوقت، لا تفرط في الكمية لكي لا تصبح الحلوى دهنية جداً.

تشكيل الحواف:

عند وضع الطبقة العلوية من الكنافة، اضغط على الأطراف جيداً لعمل “حاجز” يمنع الحشوة من التسرب.

القطر:

يمكن التحكم في درجة حلاوة “بين نارين” عن طريق كمية القطر المستخدمة. البعض يفضلها قليلة الحلاوة، والبعض الآخر يحبها غارقة في القطر. يمكن أيضاً إضافة نكهات للقطر مثل الهيل أو القرفة.

التقديم:

تُقدم “بين نارين” غالباً دافئة، حيث تكون الحشوة طرية والكنافة مقرمشة. يمكن تقديمها مع القليل من القشطة الإضافية أو الآيس كريم.

خامساً: “بين نارين” في ثقافتنا – أكثر من مجرد حلوى

“بين نارين” ليست مجرد وصفة، بل هي جزء لا يتجزأ من ثقافتنا العربية، خاصة في المناسبات العائلية والاحتفالات. إنها الحلوى التي تجتمع حولها العائلة، والتي تُعدّ بحب وشغف. إن رائحة الكنافة وهي تُخبز تملأ المنزل بعبق الدفء والبهجة.

يُعتقد أن أصل تسمية “بين نارين” يعود إلى طريقة خبزها التي تجمع بين حرارة الفرن السفلية (النار السفلية) وحرارة الشواية العلوية (النار العلوية)، أو ببساطة إلى التناقض بين القوامات التي تتعرض لحرارة النار.

إن تحضير “بين نارين” هو رحلة تتطلب الصبر والدقة، ولكن النتيجة تستحق كل هذا الجهد. إنها تجسيد للأصالة العربية، وحلاوة تجمع بين الماضي والحاضر، وبين العائلة والأصدقاء.