المفتول الفلسطيني بالطحين: رحلة عبر الزمن والنكهات
يُعد المفتول الفلسطيني، ذلك الطبق العريق والشهي، أكثر من مجرد وجبة؛ إنه تجسيدٌ للتراث، ورمزٌ للكرم، وصورةٌ نابضةٌ بالحياة للتاريخ الفلسطيني الغني. وعلى الرغم من أن المفتول يُعرف عادةً بإعداده من البرغل، إلا أن الوصفة التقليدية الأصيلة، والتي غالباً ما تكون الأقل شيوعاً في الوقت الحاضر، تعتمد على الطحين كمكون أساسي في تحضير حبّاته المميزة. هذه الوصفة، التي تتوارثها الأجيال، تحمل في طياتها قصةً من الصبر، والمهارة، والحب، وهي رحلةٌ تستحق أن نغوص في تفاصيلها لنستكشف سحرها.
تاريخٌ عريقٌ يتجسد في طبق
يعود تاريخ المفتول إلى قرونٍ مضت، حيث كان يُعدّ طبقاً أساسياً في المطبخ الفلسطيني والشامي بشكل عام. ارتبط إعداده بالمناسبات العائلية والاحتفالات، وبخاصةً في فصل الشتاء، حيث يُعتبر وجبةً دافئة ومغذية. إن عملية تحضيره اليدوية، التي تتطلب جهداً ووقتاً، كانت تُضفي عليه قيمةً خاصة، وتجعله رمزاً للكرم والضيافة. ورغم انتشار وصفات المفتول المعتمدة على البرغل، إلا أن المفتول بالطحين يحتفظ بمكانةٍ خاصة لدى عشاق النكهات الأصيلة، فهو يمنح الطبق قواماً مختلفاً وقصةً أعمق.
مكوناتٌ بسيطةٌ تخبئ سراً عظيماً
لا يتطلب تحضير المفتول بالطحين قائمةً طويلةً من المكونات المعقدة، بل يعتمد على أساسياتٍ متوفرة في كل بيت، تتضافر لتصنع تحفةً فنيةً شهية.
المكونات الأساسية لحبّات المفتول:
الطحين: هو البطل الرئيسي في هذه الوصفة. يُفضل استخدام طحين القمح الفاخر، ذي النوعية الجيدة، لضمان الحصول على حبّات مفتول متماسكة وطرية. حوالي 3-4 أكواب من الطحين عادةً ما تكفي لأسرة متوسطة.
الماء: يُستخدم لربط الطحين وتشكيل العجينة. يجب أن يكون الماء فاتراً، ليكون أسهل في التعامل مع العجينة.
الملح: يُضاف بكمية قليلة جداً لتعزيز النكهة، وليس لإضفاء طعم مالح على الحبّات نفسها.
مكونات الصلصة والدجاج:
الدجاج: يُفضل استخدام دجاجة كاملة مقطعة إلى أجزاء، أو أفخاذ الدجاج، لإضفاء نكهة غنية على المرق.
الحمص: يُعدّ الحمص عنصراً أساسياً لإضافة القيمة الغذائية والنكهة المميزة للصلصة. يُفضل استخدام الحمص المسلوق مسبقاً.
البصل: يُستخدم البصل المفروم ناعماً في تحضير الصلصة، لإضفاء حلاوة وعمق للنكهة.
البهارات: تشمل البهارات الأساسية: الكمون، والكزبرة المطحونة، والفلفل الأسود. قد يضيف البعض القرفة أو الهيل لإضفاء لمسةٍ عطريةٍ مميزة.
الزيت أو السمن: يُستخدم في قلي البصل وطهي الدجاج.
الملح: لضبط طعم الصلصة.
الماء: لعمل المرق الذي تُطهى فيه حبّات المفتول.
فنّ التشكيل: السحر يبدأ هنا
تُعدّ عملية تشكيل حبّات المفتول اليدوية هي جوهر هذه الوصفة، وهي تتطلب صبراً ومهارةً ودقةً.
خطوات تشكيل المفتول بالطحين:
1. تحضير العجينة: في وعاءٍ كبير، يُوضع الطحين ويُضاف إليه قليلٌ من الملح. يُضاف الماء الفاتر تدريجياً مع العجن المستمر حتى تتكون عجينةٌ متماسكةٌ وليست لاصقة. يجب أن تكون العجينة قاسيةً قليلاً، بحيث يمكن تشكيلها دون أن تتفتت.
2. التقسيم والتشكيل الأولي: تُقسم العجينة إلى قطعٍ صغيرةٍ بحجم حبة الحمص تقريباً. تُكور كل قطعةٍ لتصبح كرةً صغيرة.
3. التبذير (البرم): هذه هي الخطوة الأكثر أهميةً وتتطلب مهارة. تُوضع الكرات الصغيرة على سطحٍ مستوٍ، وتُمرر بين راحتي اليدين بشكلٍ دائري وسريع، مع الضغط الخفيف، لتبدأ الحبة في التشكل بشكلٍ أسطواني رفيع، ثم تبدأ بالبرم لتتشكل على هيئة “حبة الأرز” أو “الفتيلة” الصغيرة. تُعرف هذه العملية بالتبذير أو البرم.
4. التلييس (التدحرج): بعد برم كل حبة، تُوضع الحبات الصغيرة على سطحٍ نظيفٍ وواسع، ويُضاف إليها القليل من الطحين (للحفاظ على عدم التصاقها). ثم تُدحرج الحبات بلطفٍ وبحركةٍ دائريةٍ بين راحتي اليدين، مع إضافة المزيد من الطحين بشكلٍ تدريجي، حتى تبدأ الحبات في التجمع والتكور لتشكل “حبة المفتول” المرغوبة، والتي تشبه حبات الكسكس لكنها أكبر حجماً وأكثر انتظاماً. يُطلق على هذه العملية اسم “التلييس” أو “التدوير”.
5. الغربلة: بعد الانتهاء من تلييس الكمية المطلوبة، تُغربل حبّات المفتول باستخدام منخلٍ واسعٍ للتخلص من أي طحينٍ زائدٍ أو حباتٍ غير منتظمة.
6. التجفيف: تُفرد حبّات المفتول على صوانٍ نظيفةٍ وتُترك لتجف في الهواء الطلق، بعيداً عن أشعة الشمس المباشرة، لمدة يومٍ أو يومين، أو حتى تصبح جافةً تماماً. هذه الخطوة ضروريةٌ للحفاظ على المفتول لأطول فترةٍ ممكنة.
نصائح إضافية لتشكيل مثالي:
التحلي بالصبر: عملية التشكيل تتطلب وقتاً وجهداً، لذا لا تستعجل.
الاستعانة بالأيدي المساعدة: خاصةً في أيام المناسبات، حيث يمكن للعائلة والأصدقاء المشاركة في هذه العملية الممتعة.
التدرب المستمر: كلما تدربت أكثر، أصبحت مهارتك في التشكيل أفضل.
استخدام طحين ذي جودة عالية: يؤثر نوع الطحين بشكلٍ كبير على سهولة التشكيل ونتائج الحبة النهائية.
طهيٌ يجمع النكهات: سرّ المرق الغني
إن طهي المفتول بالطحين ليس مجرد عملية سلق، بل هو فنٌ يجمع بين المكونات لتكوين طبقٍ متكاملٍ من النكهات.
خطوات طهي المفتول:
1. تحضير الصلصة: في قدرٍ عميق، يُسخن الزيت أو السمن. يُضاف البصل المفروم ويُقلب حتى يذبل ويصبح ذهبي اللون. تُضاف قطع الدجاج وتُقلب حتى تتحمر قليلاً من جميع الجوانب. تُضاف البهارات (الكمون، الكزبرة، الفلفل الأسود، والملح)، ويُقلب الكل جيداً.
2. إضافة الماء والحمص: يُضاف الماء الكافي لتغطية الدجاج والحمص، ويُترك المزيج ليغلي. تُضاف حبات الحمص المسلوقة.
3. طهي الدجاج: تُغطى القدر وتُترك على نارٍ هادئة لمدة 30-45 دقيقة، أو حتى ينضج الدجاج تماماً.
4. طهي المفتول: في قدرٍ خاص بالمفتول (القدر الثقيل ذي الثقوب في الغطاء)، أو في قدرٍ عادي مع وضع مصفاةٍ فوقه، يُوضع المفتول المجفف. يُصب فوقه قليلٌ من زيت الزيتون أو السمن ويُقلب جيداً لضمان عدم التصاقه.
5. التبخير: يُوضع المفتول فوق المرق المغلي في قدر المفتول، وتُغطى القدر بإحكام. تُترك حبّات المفتول لتتبخر على البخار لمدة 45-60 دقيقة، مع التقليب كل 15-20 دقيقة لضمان نضجه بالتساوي. الهدف هو أن يصبح المفتول طرياً ومنتفخاً.
6. التقديم: يُقلب المفتول المطبوخ بلطفٍ في وعاءٍ كبير. يُسكب فوقه المرق الغني بالدجاج والحمص، ويُقدم ساخناً.
أسرارٌ لنكهةٍ أعمق:
جودة المرق: كلما كان المرق أغنى وألذ، كلما كان المفتول أشهى. لا تبخل بالبهارات والبصل عند تحضير الصلصة.
التوزيع المتساوي للبخار: التأكد من أن البخار يصل إلى جميع حبّات المفتول بالتساوي هو مفتاح النضج المثالي.
التقليب اللطيف: تجنب التقليب العنيف الذي قد يؤدي إلى تكسر حبّات المفتول.
نكهاتٌ مصاحبةٌ تزيد الطبق رونقاً
لا يكتمل طبق المفتول الفلسطيني بالطحين دون بعض الإضافات التي تُثريه وتُعزز من نكهته.
خياراتٌ إضافية للتقديم:
اللبن: غالباً ما يُقدم المفتول مع اللبن الزبادي أو اللبن المخيض، الذي يُضفي حموضةً منعشةً تُوازن بين غنى الطبق.
الملفوف المخلل: يُعدّ الملفوف المخلل، أو ما يُعرف بـ “الكبيس”، طبقاً جانبياً تقليدياً يُقدم مع المفتول، حيث تُعزز نكهته الحامضة من طعم الطبق الرئيسي.
السلطة الخضراء: طبقٌ بسيطٌ من السلطة الخضراء الطازجة يُضفي لمسةً من الانتعاش على المائدة.
الفلفل الأخضر الحار: لعشاق النكهات اللاذعة، يُمكن تقديم الفلفل الأخضر الحار كطبقٍ جانبي.
المفتول بالطحين: إرثٌ حيٌّ للأجيال القادمة
إن إعداد المفتول بالطحين ليس مجرد وصفةٍ تُتبع، بل هو تجربةٌ ثقافيةٌ غنيةٌ تربطنا بجذورنا وتُعرفنا على تراثنا. في عصر السرعة والتكنولوجيا، قد يبدو تحضير المفتول يدوياً أمراً شاقاً، لكنه في المقابل يُقدم لنا فرصةً للاستمتاع بعمليةٍ جماعيةٍ تُقوي الروابط الأسرية، وتُعلم الأجيال الشابة قيمة الجهد والصبر، وتُكسبهم مهاراتٍ قديمةً باتت نادرة. هذا الطبق، بجماله وبساطته، هو شهادةٌ على عبقرية المطبخ الفلسطيني، ودليلٌ على أن أروع النكهات غالباً ما تُصنع بأيدينا، وبحبٍ خالص.
