فن صناعة اللحوح الحبشي: رحلة عبر الزمن والمذاق
يُعد اللحوح الحبشي، أو “إنّجِرا” باللغة الأمهرية، أكثر من مجرد طبق تقليدي في إثيوبيا وإريتريا؛ إنه رمز ثقافي، ووجه أساسي في كل وجبة، وعامل موحد للشعب. هذه الفطيرة الإسفنجية، ذات النكهة الحامضة المميزة والقوام الهش، هي محور المطبخ الإثيوبي، وشاهد على براعة الأجيال في فن التخمير والخبز. إن فهم طريقة عمل اللحوح ليس مجرد تعلم وصفة، بل هو استكشاف لتاريخ غني، وتقاليد متوارثة، وعلاقة عميقة بين الإنسان والطبيعة.
أصول اللحوح: تاريخ يتجاوز الأطباق
لم يظهر اللحوح فجأة، بل هو نتاج قرون من التطور الزراعي والغذائي في القرن الأفريقي. يُعتقد أن أصوله تعود إلى الألفية الأولى قبل الميلاد، مع انتشار زراعة حبوب التيف (Teff)، وهي حبيبات صغيرة مغذية وفريدة من نوعها تشكل المكون الأساسي للحوح. هذه الحبوب، التي تزدهر في التربة الإثيوبية، كانت ولا تزال مصدر الغذاء الرئيسي لسكان المنطقة. وقد طورت الحضارات القديمة في إثيوبيا، مثل مملكة أكسوم، تقنيات متقدمة لمعالجة هذه الحبوب، بما في ذلك تخميرها لصنع خبز طري ومغذي.
إن اختيار حبوب التيف لم يكن عشوائياً. فخصائصها الفريدة، من حيث احتوائها على البروتينات والألياف والمعادن، جعلتها مثالية لتلبية احتياجات مجتمع يعتمد على الزراعة. الأهم من ذلك، أن التيف غني بحمض اللاكتيك، الذي يلعب دوراً حاسماً في عملية تخمير اللحوح، ويمنحه نكهته الحامضة المميزة والمحبوبة. هذا التخمير الطبيعي لا يقتصر دوره على تحسين الطعم والرائحة، بل يساهم أيضاً في زيادة القيمة الغذائية للخبز، وتسهيل هضمه، وحتى الحفاظ عليه لفترة أطول، وهو أمر ضروري في المناخات الدافئة.
مكونات اللحوح: بساطة تخفي عمقاً
في جوهره، يعتمد اللحوح الحبشي على مكونين أساسيين فقط:
حبوب التيف (Teff): هذا هو نجم العرض بلا منازع. التيف، الذي يُزرع بألوان مختلفة تتراوح بين الأبيض والبني الداكن، يمنح اللحوح قوامه الفريد ونكهته المميزة. يُستخدم التيف غالباً كدقيق، ولكن يمكن أيضاً استخدام حبوب كاملة في بعض الوصفات التقليدية.
الماء: الماء هو المذيب الذي يحول دقيق التيف إلى عجينة قابلة للتخمير والخبز. تعتمد كمية الماء المستخدمة على قوام العجينة المطلوب، والذي يتغير خلال عملية التخمير.
قد تبدو هذه القائمة بسيطة، لكن سر اللحوح يكمن في العملية نفسها، وفي تفاعل التيف مع الماء والوقت. في بعض الأحيان، قد تُضاف كميات صغيرة من مكونات أخرى لتعزيز النكهة أو القوام، مثل قليل من دقيق القمح أو الشعير، أو حتى بعض الأعشاب في مراحل متقدمة من التخمير، ولكن التيف يبقى المكون الأساسي الذي لا غنى عنه.
عملية التخمير: قلب اللحوح النابض
التخمير هو المرحلة الأكثر أهمية وسحراً في صناعة اللحوح. إنها عملية بيولوجية طبيعية تتطلب صبراً ودقة، حيث تعمل الكائنات الحية الدقيقة، وخاصة الخمائر والبكتيريا، على تحويل السكريات الموجودة في دقيق التيف إلى كحول وثاني أكسيد الكربون وحمض اللاكتيك.
1. إعداد العجينة الأولية (الـ “أوتو” أو “إينجِرا فيرمينتيشن” – Injera Fermentation):
تبدأ العملية عادةً قبل يوم أو يومين من خبز اللحوح. يُخلط دقيق التيف مع كمية كافية من الماء الدافئ لتكوين عجينة سائلة، تشبه قوام البانكيك السميك. تُترك هذه العجينة لتتخمر في وعاء غير محكم الإغلاق، في درجة حرارة الغرفة. خلال هذه الفترة، تبدأ الكائنات الدقيقة الموجودة بشكل طبيعي في دقيق التيف، أو التي قد تُضاف عن قصد (من عجينة سابقة أو بادئ)، في التكاثر.
2. دور البكتيريا والخمائر:
تتغذى الخمائر على السكريات وتنتج غاز ثاني أكسيد الكربون، وهو المسؤول عن تكوين الفقاعات في العجينة، والذي سيتحول لاحقاً إلى الثقوب المميزة في اللحوح. في الوقت نفسه، تقوم البكتيريا، وخاصة بكتيريا حمض اللاكتيك، بتحويل السكريات إلى حمض اللاكتيك. هذا الحمض هو ما يمنح اللحوح نكهته الحامضة الفريدة، ويساعد أيضاً في الحفاظ على العجينة ومنع فسادها.
3. علامات التخمير الناجح:
تستمر عملية التخمير لمدة 24 إلى 72 ساعة، حسب درجة الحرارة والمكونات المستخدمة. يمكن ملاحظة علامات التخمير الناجح من خلال:
الرائحة: تنبعث رائحة حامضة مميزة، تشبه رائحة الزبادي أو الخبز المخمر.
الفقاعات: تظهر فقاعات غازية على سطح العجينة، وتكون العجينة أكثر انتفاخاً.
القوام: يصبح القوام أكثر ليونة وسيولة، وقد ينفصل الماء قليلاً عن العجينة (يُسمى هذا الماء “أوّو” أو “مِطّير”).
4. “العجينة الأم” (Starter Dough):
في العديد من المنازل الإثيوبية، يتم الاحتفاظ بجزء من العجينة المخمرة لاستخدامه كـ “عجينة أم” أو بادئ للدفعة القادمة. هذا يضمن استمرارية عملية التخمير ويحافظ على النكهة المميزة لللحوح الذي اعتاد عليه أفراد الأسرة. هذه الممارسة هي مثال حي على نقل المعرفة والتقاليد عبر الأجيال.
خبز اللحوح: فن على صاج ساخن
بعد اكتمال عملية التخمير، تصبح العجينة جاهزة للخبز. تُعرف صينية الخبز التقليدية للحوح بالـ “مِطّات” (Mitad)، وهي عبارة عن صاج دائري مسطح، غالباً ما يكون مصنوعاً من الطين أو المعدن، ويوضع فوق موقد تقليدي أو حديث.
1. تحضير الـ “مِطّات”:
يجب تسخين الـ “مِطّات” جيداً قبل البدء بالخبز. تُدهن أحياناً بكمية قليلة جداً من الزيت أو الزبدة لمنع الالتصاق، خاصة مع الصاج الجديد.
2. سكب العجينة:
بمجرد أن يصل الـ “مِطّات” إلى درجة الحرارة المناسبة، تُسكب كمية من العجينة المخمرة بسلاسة ودائرية، بدءاً من المركز وامتداداً نحو الخارج. الهدف هو توزيع العجينة بشكل متساوٍ لتكوين فطيرة رقيقة. تُستخدم أداة مغرفة خاصة أو مجرد تحريك يدوي للصاج لتوزيع العجينة.
3. عملية الخبز:
تُخبز العجينة على حرارة متوسطة إلى عالية. خلال دقائق قليلة، تبدأ العجينة في النضج. تتشكل الثقوب المميزة (التي تُعرف بـ “أعين اللحوح”) عندما يبدأ بخار الماء وثاني أكسيد الكربون بالخروج من خلال العجينة. يصبح لون اللحوح ذهبياً من الأسفل، ويبقى الجزء العلوي رطباً قليلاً.
4. وقت الخبز:
يستغرق خبز كل قطعة لحوح بضع دقائق فقط. بمجرد أن يصبح السطح جافاً قليلاً وتتكون الثقوب بشكل كامل، يُرفع اللحوح من الـ “مِطّات” ويُترك ليبرد قليلاً. يُخبز اللحوح بالترتيب، وتُكدس القطع فوق بعضها البعض للحفاظ على رطوبتها ومرونتها.
5. الفرق بين اللحوح الأبيض واللحوح الأحمر:
يُخبز اللحوح الأبيض عادةً من دقيق التيف الأبيض، وهو النوع الأكثر نقاءً. أما اللحوح الأحمر، فيُخبز من دقيق التيف الأسمر أو الأحمر، والذي يحتوي على نسبة أعلى من النخالة، مما يمنحه لوناً أغمق ونكهة أكثر قوة وغنى بالألياف.
تقديم اللحوح: أكثر من مجرد خبز
اللحوح ليس مجرد طبق جانبي، بل هو طبق أساسي يُقدم فيه كل شيء. تُوضع قطعة كبيرة من اللحوح كقاعدة على طبق تقديم كبير، ثم تُوضع فوقها مختلف أنواع الأطباق التقليدية.
1. الأطباق التقليدية (الـ “ووت” – Wot):
تُعد الـ “ووت” هي المرافق المثالي للحوح. وهي عبارة عن طواجن غنية ولذيذة، تُطهى ببطء، وتتميز بمزيج فريد من البهارات. تشمل أشهر أنواع الـ “ووت”:
دورو ووت (Doro Wot): طاجن الدجاج الحار، غالباً ما يُقدم مع بيض مسلوق.
سِغا ووت (Siga Wot): طاجن اللحم البقري أو الضأن، يُطهى مع البصل والزبدة والبهارات.
مِسِير ووت (Misir Wot): طاجن العدس الأحمر، وهو طبق نباتي شهير.
أليتشا (Alicha): وهي أطباق نباتية أو باللحم أقل حرارة، تُطهى مع الكركم والزنجبيل والبصل.
2. طريقة الأكل:
يُؤكل اللحوح باليد اليمنى. تُقطع قطعة صغيرة من اللحوح، ثم تُستخدم لغرف الطعام من الـ “ووت” أو أي طبق آخر. هذه الطريقة في الأكل تعزز الشعور بالمشاركة والتواصل بين أفراد الأسرة والأصدقاء.
3. التنوع الإقليمي:
تختلف تقاليد إعداد وتقديم اللحوح قليلاً من منطقة إلى أخرى داخل إثيوبيا وإريتريا. قد تختلف أنواع التيف المستخدمة، أو درجات حموضة العجينة، أو حتى أنواع الـ “ووت” المفضلة. ومع ذلك، يبقى اللحوح هو الرابط المشترك الذي يوحد هذه الثقافات.
نصائح لتحضير لحوح مثالي في المنزل:
قد يبدو تحضير اللحوح في المنزل تحدياً، خاصة مع عملية التخمير الطويلة، ولكن بالصبر والممارسة، يمكن تحقيق نتائج رائعة:
جودة دقيق التيف: استخدم دقيق تيف عالي الجودة. يمكنك العثور عليه في المتاجر المتخصصة في الأطعمة الأفريقية أو عبر الإنترنت.
درجة الحرارة: تلعب درجة الحرارة دوراً حاسماً في عملية التخمير. حاول الحفاظ على العجينة في مكان دافئ، ولكن ليس ساخناً جداً، خلال فترة التخمير.
الصبر: لا تستعجل عملية التخمير. امنحها الوقت الكافي لتتطور النكهات والفقاعات.
اختبار الـ “مِطّات”: إذا كنت تستخدم صاجاً جديداً، فقد تحتاج إلى تجربته عدة مرات قبل أن تحصل على نتائج مثالية.
الاستمرارية: إذا نجحت في صناعة دفعة جيدة، حاول الاحتفاظ بقليل من العجينة كبادئ للدفعة التالية.
اللحوح في العصر الحديث:
على الرغم من جذوره العميقة في التقاليد، لم يتوقف اللحوح عن التطور. في الوقت الحاضر، يمكن العثور على اللحوح في المطاعم الإثيوبية حول العالم، وقد تم تكييف طرق تحضيره لتناسب المطابخ الحديثة، باستخدام صواني خبز كهربائية وأدوات أسهل. كما بدأت الأبحاث تتكشف عن فوائد التيف الغذائية، مما يزيد من شعبيته عالمياً.
إن اللحوح الحبشي ليس مجرد طعام، بل هو قصة تُروى عبر الزمن، قصة عن الأرض، وعن الناس، وعن فن لا ينتهي في تحويل أبسط المكونات إلى وليمة تغذي الجسد والروح. إن تجربة تحضير اللحوح وتذوقه هي دعوة للانغماس في ثقافة غنية ومتجذرة، والاحتفاء بجمال البساطة والعمق في آن واحد.
