فن عريق يتجدد: استخلاص زيت الزيتون بالطريقة التقليدية

لطالما ارتبط زيت الزيتون، هذا الرحيق الذهبي المستخرج من ثمار الزيتون، بتاريخ وحضارات منطقة البحر الأبيض المتوسط. إنه ليس مجرد مكون غذائي أساسي، بل هو رمز للصحة، وللأرض، وللتقاليد المتجذرة التي توارثتها الأجيال. وفي خضم الثورة الصناعية التي شهدتها طرق استخلاص الزيت، لا يزال سحر الطريقة التقليدية يحتفظ بمكانته الخاصة، ليس فقط في الحفاظ على نكهة أصيلة وجودة فائقة، بل أيضاً في إحياء إرث ثقافي غني. إنها رحلة شيقة إلى الماضي، نستكشف فيها كيف كانت وما زالت تُستخلص هذه الجوهرة السائلة بأدوات بسيطة وخبرة عميقة.

المرحلة الأولى: قطاف الحصاد – اللمسة الأولى للجودة

تبدأ قصة زيت الزيتون التقليدي من شجرة الزيتون نفسها. إن اختيار الوقت المثالي لقطاف الثمار هو الخطوة الأولى والحاسمة التي تحدد جودة الزيت النهائية. تتطلب الطريقة التقليدية اهتماماً بالغاً بهذه المرحلة، حيث لا يُعتمد على الآلات السريعة التي قد تلحق الضرر بالثمار، بل على الأيدي الماهرة التي تقطف الزيتون بعناية فائقة.

التوقيت المثالي للقطاف

يختلف توقيت القطاف حسب المنطقة والموسم ونوع الزيتون المرغوب. بشكل عام، يبدأ القطاف عندما تبدأ الثمار بالنضوج، أي عندما يتغير لونها من الأخضر إلى الأرجواني أو الأسود. هذه المرحلة، المعروفة بـ “التلون”، هي الأفضل لاستخلاص زيت ذي نكهة قوية ومستوى عالٍ من مضادات الأكسدة. القطاف المبكر ينتج زيتاً أخضر اللون، حامضياً، وذا نكهة قوية، بينما القطاف المتأخر ينتج زيتاً أصفر اللون، أقل حدة في الطعم، وأقل غنى بالمركبات المفيدة.

طرق القطاف اليدوي

تعتمد الطريقة التقليدية بشكل أساسي على القطاف اليدوي. يتضمن ذلك:

الاهتزاز اليدوي: يقوم العمال بالمرور بين الأشجار وهز الأغصان بلطف، مما يؤدي إلى سقوط الثمار على شبكات أو أغطية ممتدة أسفل الأشجار. هذه الطريقة فعالة وسريعة نسبياً مع الحفاظ على سلامة الثمار.
التقاط الثمار مباشرة: يقوم بعض العمال بالتقاط الثمار من الأغصان بأيديهم مباشرة، وهي الطريقة الأكثر دقة وعناية، لكنها أبطأ.
استخدام الأمشاط والأدوات اليدوية: تُستخدم أمشاط معدنية أو بلاستيكية خاصة لتمريرها عبر الأغصان، مما يساعد على فصل الثمار دون إلحاق الضرر بها.

الهدف الأساسي في هذه المرحلة هو تجنب قطف الزيتون الأخضر تماماً أو الزيتون المتساقط على الأرض، فهذا الأخير قد يكون تالفاً أو ملوثاً.

المرحلة الثانية: الغسيل والتنظيف – إزالة الشوائب

بعد قطاف الزيتون، تأتي مرحلة التنظيف والغسيل لإزالة أي أتربة، أوراق، أغصان، أو أي شوائب أخرى قد تكون عالقة بالثمار. هذه الخطوة ضرورية لضمان نقاء الزيت النهائي ومنع أي روائح أو نكهات غير مرغوبة.

عملية الغسيل التقليدية

في الطريقة التقليدية، تتم عملية الغسيل عادةً في أوعية كبيرة أو أحواض مائية. يُسكب الزيتون في الماء، ويُقلب بلطف للتخلص من الأوساخ. تُزال الأوراق والأغصان يدوياً. قد تتطلب بعض الحالات غسل الزيتون عدة مرات لضمان نظافته الكاملة.

المرحلة الثالثة: الطحن – تحويل الثمار إلى عجينة

هذه هي المرحلة الأساسية التي يبدأ فيها تحويل ثمار الزيتون إلى ما يشبه العجينة، وهي خطوة ضرورية قبل استخلاص الزيت. في الطريقة التقليدية، تتم هذه العملية باستخدام أدوات بسيطة لكنها فعالة.

الرحى الحجرية: قلب الطحن التقليدي

تُعد الرحى الحجرية، أو “المعصرة الحجرية”، هي الأداة الأيقونية في الطريقة التقليدية لطحن الزيتون. تتكون هذه الرحى عادةً من حجري طحن كبيرين، أحدهما ثابت والآخر يدور فوقه.

آلية العمل: يُوضع الزيتون في الجزء العلوي من الرحى، ثم يبدأ الحجر الدوار بالدوران، إما بواسطة حيوانات (مثل الحمير أو الخيول) في الماضي، أو بواسطة قوة بشرية. يؤدي دوران الحجر إلى سحق ثمار الزيتون بالكامل، بما في ذلك اللب والبذور، وتحويلها إلى عجينة سميكة ولزجة.
أهمية الحجر: تُصنع هذه الأحجار عادةً من مواد صلبة مثل الجرانيت أو البازلت، وتُصقل بعناية لتوفير سطح احتكاك مثالي.
مزايا الطحن التقليدي: يُعتقد أن الطحن البطيء للحجر يحافظ على درجات حرارة منخفضة، مما يمنع أكسدة الزيت ويحافظ على نكهاته المميزة ومركباته الصحية. كما أن العملية التقليدية لا تتطلب إضافة الماء بكثرة، مما ينتج عنه عجينة زيتون غنية بالزيت.

مكونات العجينة

تتكون العجينة الناتجة عن الطحن من أجزاء الزيتون المختلفة: لب الثمرة، والبذور (النواة)، وبعض الماء المتبقي. الهدف هو تكسير خلايا الزيت الموجودة في اللب وإتاحة المجال لعملية الفصل لاحقاً.

المرحلة الرابعة: الخض أو التقليب – إطلاق الزيت

بعد الحصول على عجينة الزيتون، تأتي مرحلة “الخض” أو “التقليب”. هذه المرحلة هي التي تساعد على تجميع قطرات الزيت الصغيرة المتناثرة داخل العجينة في قطرات أكبر، مما يسهل عملية استخلاصها لاحقاً.

أوعية الخض التقليدية

تُستخدم أوعية كبيرة، غالباً ما تكون مصنوعة من الخشب أو الحجر، لعملية الخض. تُوضع عجينة الزيتون في هذه الأوعية.

آلية الخض

يتم تقليب العجينة بشكل مستمر، إما يدوياً باستخدام أدوات خشبية كبيرة، أو بواسطة آلات بسيطة تدور ببطء. الهدف هو تحريك العجينة بلطف لفترة زمنية محددة.

أهمية درجة الحرارة: يجب أن تتم عملية الخض في درجات حرارة معتدلة. في الطريقة التقليدية، يتم الحفاظ على هذه الحرارة من خلال حركة العجينة نفسها، أو بتدفئة الأوعية قليلاً بشكل غير مباشر. الحرارة المرتفعة جداً يمكن أن تؤثر سلباً على جودة الزيت ونكهته.
الوقت اللازم: يختلف وقت الخض حسب نوع الزيتون ورطوبته، ولكنه عادة ما يتراوح بين 30 إلى 45 دقيقة.

المرحلة الخامسة: العصر – فصل الذهب السائل

هذه هي ذروة العملية، حيث يتم فصل الزيت عن باقي مكونات العجينة. في الطريقة التقليدية، يتم ذلك باستخدام آلات عصر تعتمد على الضغط الميكانيكي.

المكابس الهيدروليكية أو اللولبية التقليدية

تُعد المكابس، سواء كانت هيدروليكية أو لولبية، هي الأدوات الرئيسية في هذه المرحلة.

آلية العمل: تُوضع عجينة الزيتون في أكياس أو طبقات من مواد مسامية (مثل الخيش أو الألياف الطبيعية) تُسمى “الفرش” أو “المصافي”. تُرتّب هذه الأكياس فوق بعضها البعض فوق قاعدة المكبس. ثم يتم تطبيق ضغط هائل تدريجياً لضغط هذه الطبقات.
الاستخلاص بالضغط: يؤدي الضغط إلى خروج الزيت والماء والمواد الصلبة المتبقية من الأكياس. يتدفق السائل الناتج (مزيج من الزيت والماء) عبر قنوات مخصصة ليتم تجميعه.
الاستخلاص على مرحلتين: في بعض الأحيان، قد تتطلب العملية عصراً على مرحلتين لزيادة كمية الزيت المستخلص.

الفرق بين الاستخلاص بالضغط والاستخلاص بالطرد المركزي

تختلف هذه الطريقة عن الاستخلاص الحديث الذي يعتمد على الطرد المركزي. في الطرد المركزي، يتم فصل الزيت عن الماء والمواد الصلبة بواسطة قوة الطرد المركزي، وهي عملية أسرع وتنتج كميات أكبر من الزيت، ولكن البعض يرى أنها قد تؤثر على بعض المركبات العطرية الدقيقة في الزيت. بينما الاستخلاص بالضغط التقليدي، رغم بطئه، يُنظر إليه على أنه يحافظ بشكل أفضل على هذه المركبات.

المرحلة السادسة: الفصل والتنقية – الحصول على الزيت النقي

بعد عملية العصر، نحصل على مزيج سائل يحتوي على زيت الزيتون والماء. تأتي الآن مرحلة فصل الزيت عن الماء.

التنقية الطبيعية

في الطريقة التقليدية، تعتمد التنقية بشكل أساسي على خاصية اختلاف الكثافة بين الزيت والماء.

الترسيب: يُترك السائل الناتج من عملية العصر في أوعية كبيرة لفترة من الزمن. نظراً لأن الزيت أخف من الماء، فإنه يطفو على السطح.
التجميع: بعد أن يستقر المزيج ويتكون طبقة من الزيت فوق طبقة من الماء، يتم تجميع الزيت بعناية من السطح. يمكن استخدام أدوات بسيطة مثل الأكواب أو الملاعق الخاصة لهذا الغرض.
الترشيح (اختياري): في بعض الأحيان، قد يتم تمرير الزيت عبر طبقات من القماش أو مواد طبيعية أخرى لإزالة أي بقايا صلبة متبقية.

الزيت غير المصفى (الزيت البكر): سر النكهة

غالباً ما يُترك الزيت المستخلص بالطريقة التقليدية غير مصفى تماماً، أو يُصفى بشكل خفيف. هذا الزيت، المعروف بالزيت البكر أو “الزيت غير المصفى”، يحتفظ بكمية أكبر من جزيئات الزيتون الدقيقة والمواد الصلبة العالقة، مما يعطيه نكهة غنية، ورائحة قوية، وقواماً فريداً. هذه الجزيئات قد تسبب تعكراً خفيفاً في الزيت، وهو ما يُعتبر علامة على أصالة الزيت التقليدي.

مزايا وعيوب طريقة العصر التقليدية

مثل أي طريقة، تحمل طريقة عصر الزيتون التقليدية في طياتها مجموعة من المزايا والعيوب التي يجب أخذها في الاعتبار.

المزايا:

نكهة وجودة فائقة: يُعتبر الزيت المستخلص بالطريقة التقليدية ذا نكهة غنية ومعقدة، ورائحة مميزة، وطعم فريد يصعب تكراره بالطرق الحديثة. يعود ذلك إلى درجات الحرارة المنخفضة أثناء الطحن والعصر، وعدم استخدام مواد كيميائية.
حفظ المركبات الصحية: يُعتقد أن هذه الطريقة تحافظ بشكل أفضل على مضادات الأكسدة، والفيتامينات، والمركبات الفينولية التي تمنح زيت الزيتون فوائده الصحية العظيمة.
إرث ثقافي وتاريخي: تمثل هذه الطريقة حلقة وصل بين الأجيال، وتحافظ على تقاليد عريقة مرتبطة بزراعة الزيتون وإنتاج الزيت، مما يمنح الزيت قيمة ثقافية واجتماعية إضافية.
الاستدامة البيئية (نسبياً): بالمقارنة مع بعض العمليات الصناعية، قد تكون بعض جوانب الطريقة التقليدية أقل استهلاكاً للطاقة وأكثر صداقة للبيئة، خاصة إذا اعتمدت على مصادر الطاقة المتجددة أو كانت يدوية.

العيوب:

إنتاجية أقل: غالباً ما تكون كمية الزيت المستخلصة بالطريقة التقليدية أقل مقارنة بالطرق الحديثة التي تعتمد على الطرد المركزي، مما يجعل الزيت أغلى ثمناً.
بطء العملية: تستغرق عملية العصر التقليدية وقتاً طويلاً، مما قد لا يكون عملياً للإنتاج على نطاق واسع.
التكاليف العالية للعمالة: تتطلب الطريقة التقليدية غالباً عمالة كثيفة، مما يزيد من تكلفة الإنتاج.
صعوبة التوحيد القياسي: قد يكون من الصعب توحيد جودة الزيت المنتج بالطريقة التقليدية بين دفعة وأخرى، نظراً لاعتمادها الكبير على الخبرة البشرية والظروف الطبيعية.
محدودية الطاقة: قد تواجه المزارع الصغيرة أو التقليدية صعوبة في توفير المعدات اللازمة أو الطاقة الكافية لتشغيل آلات العصر.

الخلاصة: قيمة لا تُقدر بثمن

في عالم يزداد فيه الاهتمام بالأصالة والجودة، تستمر طريقة عصر الزيتون التقليدية في إثبات قيمتها. إنها ليست مجرد طريقة لاستخلاص الزيت، بل هي احتفاء بالصبر، بالخبرة، وبالارتباط العميق بالأرض. كل قطرة من هذا الزيت الذهبي تحمل في طياتها قصة قرون من الحكمة والتقاليد، وتقدم لنا طعماً لا يُضاهى وفوائد صحية لا تُحصى. إنها دعوة لتذوق التاريخ، ولتقدير الفن الذي يتجسد في أبسط وأعرق ممارساتنا.