تجربتي مع طريقة حفظ الطعام قديما في الكويت: هذه الوصفة السحرية التي أثبتت جدواها — جربوها وسوف تشعرون بالفرق!
طرق حفظ الطعام قديماً في الكويت: إرث من البراعة والصبر
في عالم اليوم الذي تتنافس فيه التقنيات الحديثة على توفير حلول مبتكرة لحفظ الطعام، قد يبدو من الغريب الغوص في أساليب الأجداد التي بدت بسيطة أو حتى بدائية. ولكن، في قلب الكويت، حيث تلاقت الصحراء بالبحر، حيث كانت الموارد محدودة والظروف قاسية، نشأت فنون عميقة في حفظ الطعام، تعكس براعة فائقة، وصبرًا لا ينضب، وفهمًا عميقًا لطبيعة البيئة. لم تكن هذه الطرق مجرد وسيلة لتجنب الهدر، بل كانت جزءًا لا يتجزأ من ثقافة غذائية غنية، تضرب بجذورها في عمق التاريخ، وتشكل هوية المجتمع.
كانت الحاجة أم الاختراع، ولم يكن هناك خيار سوى إيجاد سبل فعالة لضمان توافر الغذاء طوال العام، خاصة مع التقلبات المناخية الشديدة، وفترات الحصار أو ندرة الموارد، وغياب وسائل التبريد الحديثة. اعتمد الكويتيون القدامى على خبرات متوارثة، وملاحظات دقيقة للطبيعة، واستخدام ذكي للمواد المتاحة، ليصنعوا بذلك إرثًا يستحق التذكر والتقدير.
البحر كمصدر للحياة ومخزن للغذاء
لا يمكن الحديث عن الكويت القديمة دون الإشارة إلى دورها المحوري كدولة ساحلية. لقد كان البحر مصدرًا أساسيًا للحياة، ليس فقط من خلال صيد الأسماك، بل أيضًا كمخزن طبيعي للطعام.
تجفيف الأسماك: صيد الشمس والبحر
من أبرز طرق حفظ الطعام التي برع فيها الكويتيون، وخاصة في المناطق الساحلية، هي تجفيف الأسماك. كانت هذه العملية، التي تتطلب شمسًا ساطعة ورياحًا جافة، أشبه بـ “صيد” القيمة الغذائية للبحر وتخزينها للأيام القادمة.
الاختيار الدقيق للأسماك: لم يكن أي سمك يصلح للتجفيف. كانت الأسماك الطازجة، غالبًا ما تكون من الأنواع التي تتحمل عملية التجفيف بشكل جيد مثل الشعري، الهامور، والقبقب، هي المفضلة. كانت العملية تبدأ فور وصول الصيادين إلى الشاطئ، لضمان أقصى درجات النضارة.
التحضير والتنظيف: بعد إخراج الأسماك من البحر، كانت تُنظف جيدًا من الأحشاء والقشور. في بعض الأحيان، كان يتم شق السمكة من الظهر لتسهيل عملية التجفيف وتغلغل الملح.
التمليح: سحر الملح في الحفظ: كان الملح يلعب دورًا حاسمًا في هذه العملية. كان يتم فرك الأسماك بالملح بكميات وفيرة، أو نقعها في محلول ملحي قوي. يعمل الملح على سحب الرطوبة من نسيج السمك، مما يمنع نمو البكتيريا والكائنات الدقيقة التي تسبب الفساد. كما يضيف الملح نكهة مميزة للسمك المجفف.
التجفيف تحت أشعة الشمس: بعد التمليح، كانت الأسماك تُعرض للشمس والهواء الطلق. غالبًا ما كانت تُعلّق على حبال مشدودة أو تُفرد على أسطح مرتفعة، مثل “البسطات” المصنوعة من سعف النخيل أو الخشب، لضمان تعرضها لأكبر قدر من الهواء والشمس، وبعيدًا عن الأتربة أو الحيوانات. كانت هذه العملية تستغرق عدة أيام، حسب حجم السمك وشدة حرارة الشمس والرطوبة.
التقليب والمراقبة: لم تكن عملية التجفيف سلبية. كان يجب تقليب الأسماك بشكل دوري لضمان جفافها من جميع الجهات، ومراقبتها باستمرار للتأكد من عدم تعرضها للآفات أو التلف.
النتيجة: “القديد” الثمين: ينتج عن هذه العملية سمك مجفف وصلب، يعرف في الكويت بـ “القديد”. كان هذا القديد مادة غذائية قيمة، غنية بالبروتين، ويمكن تخزينها لفترات طويلة جدًا. كان يتم استخدامه في العديد من الأطباق التقليدية، مثل “المجبوس” و”اليخنات”، مضيفًا نكهة بحرية عميقة.
القاشع والملوحة: كنوز من البحر
بالإضافة إلى القديد، كانت هناك طرق أخرى للاستفادة من الأسماك، مثل “القاشع” و”الملوحة”.
القاشع: هو سمك مجفف، غالبًا ما يكون من أنواع صغيرة مثل البياح أو السهوة. يتم تجفيفه بعد تنظيفه وتمليحه، ويُستخدم كنوع من التوابل أو الإضافات للأطباق، خاصة الحساء.
الملوحة: هي سمك مملح وغير مجفف بالكامل، حيث يتم حفظه في طبقات من الملح. غالباً ما كانت تستخدم أسماك مثل الروبيان أو البلميدا. كانت هذه الطريقة تسمح بالحفاظ على بعض طراوة السمك مع ضمان صلاحيته لفترة زمنية.
كنوز الصحراء: التمر واللحوم في عالم الجفاف
لم يقتصر الإبداع في حفظ الطعام على البحر، بل امتد ليشمل ما توفره الصحراء.
التمر: غذاء الأجداد الذهبي
التمر هو بلا شك أحد أهم الأطعمة التي اعتمد عليها الكويتيون القدامى، وكان له طرق حفظ خاصة به.
التمر الجاف (الخلاص أو السكري): كانت بعض أنواع التمور، مثل الخلاص والسكري، تتميز بجفافها الطبيعي، مما يجعلها قابلة للتخزين لفترات طويلة دون الحاجة إلى معالجة إضافية. كانت تُحفظ في أوعية فخارية أو سلال محكمة الإغلاق، في أماكن باردة وجافة.
الرطب المعجون (العجوة): في حال كان التمر طريًا (رطبًا)، كانت هناك طرق لتحويله إلى عجوة. كانت هذه العملية تتضمن تجميع التمر في أوعية كبيرة، والضغط عليه حتى يتشكل كعجينة سميكة. كانت العجوة تُحفظ في أوعية أو تُشكّل على هيئة قوالب، وتُخزن في أماكن باردة. كانت العجوة مصدرًا للطاقة ومكونًا أساسيًا في العديد من الحلويات والمخبوزات.
التمر المخزون في “الحب”: كانت بعض الكميات الكبيرة من التمر تُخزن في “الحب”، وهي أوعية كبيرة جدًا مصنوعة من سعف النخيل أو مواد مشابهة، تُغطى بطبقات من الطين أو الجص لحمايتها من الآفات والرطوبة.
حفظ اللحوم: رحلة إلى عالم “القصدير” و”القنص”
كان حفظ اللحوم يشكل تحديًا أكبر نظرًا لطبيعتها القابلة للتلف السريع.
التجفيف (القديد): على غرار الأسماك، كانت اللحوم، وخاصة لحوم الأغنام والإبل، تُجفف أحيانًا. كانت تُقطع إلى شرائح رفيعة، وتُملح، ثم تُعرض للشمس والهواء. كان هذا “القديد” اللحمي يُستخدم في الرحلات الطويلة أو كمخزون إضافي.
التمليح: كانت اللحوم تُملح بكميات كبيرة، ثم تُحفظ في أوعية مغطاة بالملح. كانت هذه الطريقة فعالة في سحب الرطوبة ومنع نمو البكتيريا.
“القصدير” (التخزين في الدهن): كانت طريقة مبتكرة لحفظ اللحوم، وخاصة المطبوخة منها. بعد طهي اللحم، كان يُقطع ويُوضع في أوعية، ثم يُغطى تمامًا بالدهن المذاب (مثل دهن الغنم أو البقر). عندما يبرد الدهن، يتصلب ويشكل حاجزًا عازلًا يمنع وصول الهواء إلى اللحم، وبالتالي يحميه من التلف. كان هذا النوع من اللحوم المحفوظة يعرف بـ “القصدير” أو “اللحم المحفوظ”.
“القنص” (اللحم المقدد): في بعض الأحيان، كان يتم تمليح اللحوم ثم تعليقها في أماكن جافة وجيدة التهوية لتجف وتتصلب، لتصبح شبيهة باللحم المقدد.
الخضروات والفواكه: لمسة من البساطة والذكاء
لم تكن الخضروات والفواكه متاحة بنفس وفرة اللحوم أو الأسماك، لكن كان للأجداد طرقهم في الاستفادة القصوى منها.
التخزين في الجو البارد: كانت بعض الخضروات الجذرية، مثل البطاطس والبصل، تُخزن في أماكن باردة وجافة، مثل القبو أو الأقبية تحت الأرض، حيث تكون درجة الحرارة ثابتة نسبيًا.
التجفيف: كانت بعض الفواكه، مثل التين، تُجفف بالشمس لتصبح قابلة للتخزين.
المخللات: كانت طريقة شائعة جدًا لحفظ بعض أنواع الخضروات، مثل الخيار والجزر والليمون. كانت تُنقع في محلول ملحي وخل، مما يمنع نمو البكتيريا ويمنحها نكهة مميزة.
“الكمأة” (الفقع): كان موسم الكمأة، الذي يظهر بعد الأمطار في الصحراء، موسمًا ثمينًا. كانت الكمأة تُحفظ عن طريق تجفيفها أو حفظها في الدهن، لاستخدامها في أطباق غنية بالنكهة.
أدوات حفظ الطعام: من الفخار إلى سعف النخيل
لعبت الأدوات المستخدمة دورًا حيويًا في نجاح هذه الطرق.
الفخار: كانت الأواني الفخارية، بأحجامها المختلفة، هي الوعاء الأساسي لحفظ العديد من المواد الغذائية. طبيعة الفخار المسامية تسمح بالتهوية، بينما تساعد أشكاله المغلقة على الحفاظ على برودة نسبية.
سلال سعف النخيل: كانت تُستخدم لحفظ التمور، ولصنع “البسطات” لتجفيف الأسماك.
الخشب: كانت تُستخدم صناديق وأوعية خشبية، خاصة لحفظ الحبوب أو اللحوم.
الأكياس المصنوعة من القماش: كانت تُستخدم لحفظ البقوليات والحبوب.
لماذا هذه الطرق مهمة اليوم؟
في عصر يتسم بالوفرة والتكنولوجيا، قد يتساءل البعض عن أهمية استعادة هذه الأساليب القديمة. ولكن، هذه الطرق ليست مجرد حنين إلى الماضي، بل هي دروس قيمة:
الاستدامة: كانت هذه الأساليب تعتمد على الموارد المتاحة، وتقلل من الهدر إلى أدنى حد.
الصحة: غالبًا ما كانت تعتمد على المكونات الطبيعية، مثل الملح، وتجنب المواد الحافظة الصناعية.
الثقافة والهوية: حفظ الطعام كان جزءًا لا يتجزأ من التقاليد والعادات، ويربط الأجيال ببعضها البعض.
المعرفة: فهم هذه الطرق يكشف عن مستوى عالٍ من المعرفة البيئية والاجتماعية لدى الأجداد.
في الختام، كانت طرق حفظ الطعام قديماً في الكويت شهادة على براعة الإنسان وقدرته على التكيف مع بيئته. إنها قصص عن الصبر، والابتكار، والحكمة، وقصة حب للطعام وموارده. هذه الإرث الثقافي الغني يستحق أن يُروى ويُحتفى به، وأن يُستلهم منه في عالم اليوم، لنتعلم كيف نعيش بذكاء واستدامة، ونحافظ على ما لدينا.
