فن السكر الدمشقي: رحلة عبر الزمن مع السكاكر والحلويات السورية القديمة

في قلب بلاد الشام، حيث يلتقي التاريخ بالحضارة، تتجلى ثقافة غنية ومتجذرة في تفاصيل الحياة اليومية، ومن أروع تجلياتها تلك الموائد العامرة بالسكاكر والحلويات السورية القديمة. هذه الأطايب ليست مجرد أطعمة، بل هي قصص تُروى، وذكريات تُستعاد، وقطع فنية تُصنع بشغف وخبرة تناقلتها الأجيال. إنها إرث ثقافي يحمل بصمات الحضارات المتعاقبة التي مرت على سوريا، من الفينيقيين والرومان إلى العثمانيين، كلٌ ترك بصمته على فن صناعة الحلويات، مضيفًا نكهة، أو طريقة تحضير، أو حتى اسمًا أصبح علامة فارقة.

جذور تاريخية عميقة: من العسل إلى السكر المكرر

لم تكن رحلة السكاكر السورية بالسهولة التي نعرفها اليوم. في العصور القديمة، كان العسل الطبيعي هو المحلى الأساسي، وكان يُستخدم في صنع أنواع بسيطة من الحلوى. مع دخول قصب السكر إلى المنطقة، وتطور تقنيات تكريره، بدأ عصر جديد من الابتكار في عالم الحلويات. أصبحت عجينة السكر المكرر، بملمسها الناعم وقدرتها على التشكيل، المادة الخام الأساسية للعديد من التحف السكرية التي زينت موائد الأعياد والمناسبات.

كانت دمشق، بكونها مركزًا تجاريًا وثقافيًا هامًا، سباقة في تبني هذه التقنيات الجديدة. استطاع الحلوانيون الدمشقيون، بمهاراتهم الفائقة، تحويل السكر إلى أشكال فنية مذهلة، تتنوع بين الزهور المتفتحة، والطيور الملونة، وحتى المشاهد المصغرة من الحياة اليومية. لم تكن هذه السكاكر مجرد أشكال زخرفية، بل كانت تقدم في المناسبات الهامة كرمز للكرم والاحتفاء، وتُهدى كعربون محبة وتقدير.

أيقونات المذاق: سكاكر سورية لا تُنسى

عند الحديث عن السكاكر السورية القديمة، تبرز أسماء لامعة ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بذاكرة الأجيال. من بين هذه الأيقونات، نجد:

النحاسيات: فن النقش واللون

تُعد “النحاسيات” من أقدم وأشهر أنواع السكاكر السورية. سميت بهذا الاسم لشبه لونها بالنحاس المصقول، وهي مصنوعة من عجينة السكر المكرر، تُعجن مع كمية قليلة من الماء وبعض المنكهات الطبيعية مثل ماء الورد أو ماء الزهر، وأحيانًا تُضاف إليها بعض التوابل مثل الهيل أو القرفة لإضفاء نكهة مميزة.

ما يميز النحاسيات هو فن نقشها وتشكيلها. كان الحلوانيون ينقشون عليها زخارف دقيقة ومعقدة باستخدام أدوات خاصة، وغالبًا ما كانت هذه النقوش مستوحاة من الفن الإسلامي، مثل الأشكال الهندسية والنباتات المتشابكة. كانت بعض النحاسيات تُلون بألوان طبيعية مستخرجة من النباتات، مثل اللون الأحمر من الرمان، والأصفر من الكركم، والأخضر من السبانخ، مما يمنحها مظهرًا احتفاليًا وجذابًا. كانت النحاسيات تُقدم عادة في الأعياد والمناسبات الخاصة، وكانت علامة على بذخ وكرم المضيف.

الحلقوم السوري: نكهات تتجاوز الزمن

الحلقوم، أو “الراحة” كما تُعرف في بعض المناطق، هي حلوى لطيفة وناعمة، اشتهرت بها سوريا بشكل خاص، وأصبحت حديث العالم بفضل جودتها ونكهاتها المتنوعة. تعتمد صناعة الحلقوم السوري التقليدي على النشا والسكر، وتُطهى ببطء على نار هادئة لعدة ساعات حتى تصل إلى القوام المطلوب.

تكمن روعة الحلقوم السوري في تنوع نكهاته. إلى جانب الحلقوم السادة، هناك الأنواع المحشوة بالفستق الحلبي، أو الجوز، أو اللوز. كما تُضاف إليها نكهات طبيعية مختلفة مثل ماء الورد، وماء الزهر، وقشر البرتقال، وعصير الليمون، والهيل، والقرفة. ما يميز الحلقوم السوري هو استخدامه لمكونات طازجة وعالية الجودة، مما يمنحه نكهة غنية وطبيعية لا تُضاهى. غالبًا ما تُقطع الحلقوم إلى مكعبات صغيرة وتُغلف بالنشا أو جوز الهند المبشور، وتُقدم مع القهوة العربية أو الشاي.

الكنافة النابلسية: قصة قرمشة ذهبية

رغم أن اسمها يشير إلى نابلس، إلا أن الكنافة النابلسية احتلت مكانة مرموقة في قلوب السوريين، وأصبحت جزءًا لا يتجزأ من تراثهم الحلوي. هذه الحلوى الشهية تتكون من طبقات رقيقة من عجينة الكنافة، تُغطى بجبنة بيضاء خاصة، ثم تُسقى بالقطر (الشيرة) بعد خبزها في الفرن حتى تصبح ذهبية اللون ومقرمشة.

ما يميز الكنافة النابلسية هو استخدام الجبن الأبيض الطازج، الذي يذوب ليمنحها قوامًا مطاطيًا فريدًا. يُضاف إليها أحيانًا الفستق الحلبي المفروم للتزيين وإضافة نكهة إضافية. تُقدم الكنافة النابلسية ساخنة، وغالبًا ما يُزين وجهها ببعض قطرات ماء الورد أو ماء الزهر. إنها تجربة حسية متكاملة، تجمع بين قرمشة العجين، وحلاوة القطر، وملوحة الجبن، ورائحة ماء الورد العطرة.

المشبك: دوامة سكر مقرمشة

المشبك، بتصميمه الحلزوني المميز، هو حلوى شعبية أخرى لا تخلو منها أي مناسبة سعيدة في سوريا. تُصنع عجينة المشبك من الدقيق والخميرة، وتُخمر جيدًا، ثم تُشكل على شكل دوائر متداخلة وتُقلى في زيت غزير حتى تصبح ذهبية ومقرمشة. بعد القلي، تُغمس المشابك فورًا في القطر البارد حتى تتشبع بالحلاوة.

يُعطي القطر البارد قوامًا مقرمشًا فريدًا للمشبك، بينما تمنحه عجينة الدقيق والخميرة طعمًا محايدًا يبرز حلاوة القطر. غالبًا ما يُزين المشبك برشة من السمسم المحمص، مما يضيف نكهة إضافية وقيمة غذائية. يُعد المشبك من الحلويات التي يسهل تناولها، وغالبًا ما يُباع في الأسواق الشعبية وعلى جوانب الطرق، مما يجعله في متناول الجميع.

الاحتفالات والمناسبات: سكاكر تُزين الفرح

لم تكن السكاكر والحلويات السورية القديمة مجرد أطعمة تُستهلك يوميًا، بل كانت مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالاحتفالات والمناسبات الخاصة. في الأعياد الدينية، مثل عيد الفطر وعيد الأضحى، كانت البيوت تعج بروائح الحلويات الزكية، وتُقدم أطباق متنوعة من الكنافة، والبقلاوة، والبرازق، والغريبة، وغيرها الكثير للضيوف.

في الأعراس، كانت السكاكر تلعب دورًا رئيسيًا في الاحتفال. كانت تُصنع سكاكر خاصة للمناسبات، غالبًا ما تكون مزينة بزخارف رائعة، وتُقدم كهدايا للضيوف. كانت “سكاكر العروس” تُعد بعناية فائقة، وتُزين بألوان زاهية، وتُقدم كرمز للبهجة والتفاؤل ببداية حياة جديدة.

حتى في المناسبات الأقل رسمية، مثل زيارات الأقارب والأصدقاء، كان إحضار طبق من السكاكر أو الحلويات يُعد بادرة كرم وضيافة. كانت هذه العادة تعزز الروابط الاجتماعية وتُضفي جوًا من الألفة والمودة.

تطور الصناعة: من الورشات العائلية إلى الإنتاج التجاري

في الماضي، كانت صناعة السكاكر والحلويات السورية غالبًا ما تتم في الورشات العائلية الصغيرة، حيث يتوارث الأبناء مهنة الآباء، ويتعلمون أسرار الصنعة والوصفات التقليدية. كان الاهتمام بالجودة والمكونات الطازجة هو السمة المميزة لهذه الورشات.

مع مرور الوقت وتطور الحياة، بدأت بعض هذه الورشات في التوسع، وتحويلها إلى مصانع صغيرة، مع الحفاظ على الوصفات التقليدية وروح الأصالة. هذا التطور ساهم في انتشار السكاكر السورية خارج حدود سوريا، لتصل إلى الأسواق العالمية، وتحظى بتقدير واسع.

على الرغم من التطورات التكنولوجية، لا يزال العديد من الحلوانيين السوريين يلتزمون بالطرق التقليدية في صناعة الحلويات، معتمدين على مهاراتهم اليدوية وخبرتهم العميقة. هذا الالتزام هو ما يضمن استمرار أصالة وجودة هذه الأطايب.

مستقبل الإرث: الحفاظ على نكهة الأصالة

في ظل التحديات التي تواجه الثقافة السورية، يظل الحفاظ على إرث السكاكر والحلويات القديمة أمرًا بالغ الأهمية. هذه الأطايب ليست مجرد حلوى، بل هي جزء من الهوية الثقافية، وذاكرة حية للتاريخ الغني لسوريا.

إن تشجيع الورشات العائلية، ودعم الحلوانيين المهرة، وتعليم الأجيال الشابة أسرار هذه الصناعة، كلها خطوات ضرورية لضمان استمرارية هذا الإرث. كما أن الترويج لهذه الحلويات في المحافل المحلية والدولية، يسهم في التعريف بالثقافة السورية وإبراز جمالها وتنوعها.

عند تذوق قطعة من هذه السكاكر السورية القديمة، فإننا لا نتذوق مجرد سكر ودقيق، بل نتذوق تاريخًا عريقًا، وشغفًا لا ينتهي، وروح شعب يتمسك بتراثه بكل فخر واعتزاز. إنها دعوة لاستعادة الذكريات، واكتشاف كنوز المذاق، والاحتفاء بفن السكر الدمشقي الذي لا يزال يضيء ليالي سوريا ويسحر العالم.