تراثٌ حلوٌ يتنفسُ عبقَ الشام: استكشافُ حلوياتٍ سوريةٍ خالدةٍ بحروفٍ خمس
في قلبِ بلادِ الشام، حيثُ يلتقي التاريخُ بالحضارة، وتتعانقُ النكهاتُ الأصيلةُ معَ الروحِ الشرقيةِ الأصيلة، تتجلى فنونُ الطهيِ كلوحاتٍ فنيةٍ تُروى قصصَ الأجدادِ وتُبهرُ الأجيال. ومن بينِ كنوزِ المطبخِ الشاميِّ الثمينة، تبرزُ حلوياتٌ فريدةٌ، تتميزُ ببساطتِها الظاهريةِ وعمقِ نكهتِها، وتختزلُ في خمسةِ حروفٍ قصصًا منَ الدفءِ والكرمِ والاحتفاء. هذهِ الحلوياتُ، التي تجاوزتْ حدودَ الزمنِ والمكان، أصبحتْ جزءًا لا يتجزأُ منَ الهويةِ الثقافيةِ للمنطقة، ورمزًا للأعيادِ والمناسباتِ السعيدة، ورفيقًا دائمًا لجلساتِ الأنسِ والسمر.
إنَّ عالمَ الحلوياتِ الشاميةِ عالمٌ واسعٌ، تزخرُ فيهِ أصنافٌ لا تُحصى، تتنوعُ بينَ المقرمشِ واللين، وبينَ الحلوِ المعتدلِ والسكريِّ الغني. ولكن، ما يميزُ هذهِ الحلوياتِ ذاتِ الخمسةِ أحرفٍ هوَ قدرتها الفائقةُ على استحضارِ ذكرياتٍ دافئة، وإثارةِ مشاعرِ الحنينِ إلى الماضي، وتقديمِ تجربةٍ حسيةٍ لا تُنسى. هيَ ليستْ مجردَ طعام، بل هيَ رحلةٌ عبرَ الزمن، ونكهةٌ تحملُ بصمةَ الأهلِ والأحباب.
“هريسة”: سيمفونيةٌ منَ القمحِ والسكر، تُجسدُ البساطةَ والفخامة
لعلَّ “الهريسة” هيَ الاسمُ الأكثرُ تداولًا وارتباطًا بالحلوياتِ الشاميةِ المكونةِ من خمسةِ أحرف. هذهِ الحلوى، التي قد تبدو بسيطةً في مكوناتِها، تخفي وراءَها سرًا منَ الإتقانِ والدقةِ في التحضير. تُصنعُ الهريسةُ أساسًا منَ السميدِ الخشنِ المطبوخِ ببطءٍ معَ السكرِ والماءِ أو الحليب، لتُنتجَ قوامًا غنيًا ومتماسكًا، معَ لمسةٍ خفيفةٍ منَ ماءِ الزهرِ أو الوردِ التي تُضفي عليها عبيرًا ساحرًا.
أسرارُ الهريسةِ الناجحة: بينَ الصبرِ واللمسةِ السحرية
تكمنُ براعةُ الهريسةِ في تفاصيلِ تحضيرِها. فاستخدامُ سميدٍ ذي جودةٍ عاليةٍ هوَ الخطوةُ الأولى نحوَ النجاح. ثمَّ تأتي مرحلةُ الطهيِ البطيء، حيثُ يُتركُ الخليطُ ليتشربَ السوائلَ ويُصبحَ لينًا ومتجانسًا، معَ التحريكِ المستمرِ لمنعِ الالتصاق. وتُضافُ عادةً الزبدةُ أو السمنُ البلديُّ لإضفاءِ نكهةٍ غنيةٍ وقوامٍ كريمي. أما اللمسةُ السحريةُ، فتأتي منَ القطرِ (الشيرة) المصنوعِ منَ السكرِ والماءِ وعصيرِ الليمون، والذي يُصبُّ على الهريسةِ الساخنةِ فورَ خروجِها منَ الفرن، ليُضفي عليها بريقًا حلوًا وطعمًا لا يقاوم.
تنوعُ الهريسةِ: منَ اللوزِ إلى الفستق، وكلُّها تُبهر
لا تقتصرُ الهريسةُ على شكلِها الأساسي. فغالبًا ما تُزيَّنُ بحباتِ اللوزِ أو الفستقِ الحلبيِّ الموزعةِ بشكلٍ فنيٍّ على وجهِها، مما يُضيفُ إليها جمالًا بصريًا ونكهةً إضافية. في بعضِ المناطق، قد تُضافُ جوزِ الهندِ المبشورِ أو القرفةُ بكمياتٍ قليلةٍ لإضفاءِ لمسةٍ مختلفة. كلُّ تنويعٍ يُعطي الهريسةَ طابعًا خاصًا، ويُحافظُ على مكانتِها كحلوى مفضلةٍ لدى الجميع.
“بلورية”: نقاءُ السكرِ وشفافيةُ الفرح، عنوانٌ للبهجةِ الخالصة
إذا كانتِ الهريسةُ تجسيدًا للدفءِ والأصالة، فإنَّ “بلورية” هيَ تجسيدٌ للنقاءِ والبساطةِ التي تُبهرُ العينَ وتُنعشُ الروح. هذهِ الحلوى، التي تحملُ اسمها بدقةٍ متناهية، تتميزُ بقوامِها الشفافِ والهَش، وشكلِها البلوريِّ الذي يُشبهُ الأحجارَ الكريمة. تُصنعُ البلوريةُ منَ السكرِ والماءِ، ولكنَّ سرَّها يكمنُ في عمليةِ الطهيِ المتقنةِ التي تُحولُ السكرَ إلى بلوراتٍ دقيقةٍ تتلألأُ تحتَ الضوء.
فنُّ البلورة: دقةُ القياسِ وصبرُ الطهي
يتطلبُ تحضيرُ البلوريةِ دقةً متناهيةً في القياساتِ ودرجاتِ الحرارة. يُذابُ السكرُ معَ الماءِ ويُتركُ ليغلي على نارٍ هادئةٍ حتى يصلَ إلى مرحلةِ “الخيطِ الرفيع”، وهيَ مرحلةٌ تُحددُ قوامَ البلوريةِ النهائي. ثمَّ يُضافُ قليلٌ منَ عصيرِ الليمونِ لمنعِ تبلورِ السكرِ بشكلٍ مبكر. بعدَ ذلك، تُسكبُ هذهِ “الشيرة” الساخنةُ في قوالبَ مدهونةٍ بالزيتِ أو الزبدة، وتُتركُ لتبردَ وتتماسكَ.
تزيينُ البلورية: لمساتٌ منَ الإبداعِ تُضفي عليها سحرًا
غالبًا ما تُزيَّنُ البلوريةُ بعدَ أنْ تبردَ وتتماسكَ، إما برشِّ قليلٍ منَ السكرِ المطحونِ الناعم، أو بإضافةِ قطراتٍ منَ ملونِ الطعامِ لإعطائِها ألوانًا زاهيةً ومبهجة. في بعضِ الأحيان، قد تُغلفُ حباتُ البلوريةِ الصغيرةُ بورقِ الذهبِ أو الفضة، مما يُضفي عليها فخامةً إضافيةً ويجعلُها هديةً مثاليةً في المناسباتِ الخاصة. إنَّ شفافيتَها وقوامَها الهَش يجعلانِها حلوى خفيفةً وممتعةً، تُذوبُ في الفمِ تاركةً وراءَها طعمَ السكرِ النقي.
“زنود الست”: لفائفُ العشقِ الحلو، حكايةُ القرمشةِ والكريمة
عندَما نتحدثُ عنِ الحلوياتِ الشاميةِ المكونةِ من خمسةِ أحرف، لا يمكنُ أنْ ننسى “زنود الست”. هذا الاسمُ الغريبُ والرومانسيُّ في آنٍ واحد، يُشيرُ إلى شكلِ هذهِ الحلوى الشهيةِ التي تُشبهُ الذراعَ الممدودَ، والمُغلفَ بالحبِ والاهتمام. تُصنعُ زنودُ الستِ منَ رقائقِ عجينِ الكنافةِ الرقيقةِ أو رقائقِ الفيلو، التي تُحشى بخليطٍ كريميٍ غني، ثمَّ تُقلى أو تُخبزُ وتُغمرُ بالقطرِ الساخن.
براعةُ الحشو: بينَ القشطةِ والجبنة، نكهاتٌ لا تُقاوم
يكمنُ سحرُ زنودِ الستِ في حشوِها. الخيارُ الأكثرُ شيوعًا هوَ القشطةُ العربيةُ الغنيةُ، المصنوعةُ منَ الحليبِ والسكرِ وماءِ الزهر. ولكن، هناكَ منْ يُفضلُ حشوَها بالجبنةِ الحلوةِ أو مزيجٍ منَ القشطةِ والجبنة، مما يُضفي عليها طعمًا مختلفًا ولذيذًا. تُلفُّ هذهِ الحشوةُ بعنايةٍ داخلَ رقائقِ العجين، ثمَّ تُغلقُ الأطرافُ بإحكام.
القليُ أو الخبزُ؟ سرُّ القرمشةِ المثالية
بعدَ حشوِها، تُقلى زنودُ الستِ في زيتٍ غزيرٍ وساخنٍ حتى تُصبحَ ذهبيةَ اللونِ ومقرمشةً. أو بدلاً من ذلك، يمكنُ خبزُها في الفرنِ بعدَ دهنِها بالسمنِ البلديِّ حتى تُصبحَ مقرمشةً. وفي كلتا الحالتين، تُغمرُ فورًا بالقطرِ الساخنِ، لتتشربَ الحلاوةَ وتُصبحَ طريةً منَ الداخلِ ومقرمشةً منَ الخارج. غالبًا ما تُزيَّنُ بالفستقِ الحلبيِّ المفرومِ أو جوزِ الهندِ المبشورِ لإضافةِ لمسةٍ جماليةٍ ونكهةٍ إضافية.
“ممَّط”: حلوى الأطفالِ والكبار، سحرُ المطاطيةِ والنكهةِ الحلوة
أخيرًا، نصلُ إلى “ممَّط”، وهيَ حلوى تُثيرُ الفضولَ وتُبهجُ القلب، خاصةً لدى الأطفال. هذهِ الحلوى، التي قد تبدو غريبةً في اسمها، تتميزُ بقوامِها المطاطيِّ اللينِ والقابلِ للمط، ونكهتِها الحلوةِ التي تُشبهُ نكهةَ السكرِ معَ لمسةٍ خفيفةٍ منَ الحموضةِ في بعضِ الأحيان. تُصنعُ الممَّطُ أساسًا منَ السكرِ والماءِ والجلوكوز، معَ إضافةِ مستخلصاتٍ طبيعيةٍ لإعطائِها نكهاتٍ وروائحَ مختلفة.
الطبخُ والتشكيل: فنٌ يتطلبُ دقةً ومهارة
تتطلبُ عمليةُ صنعِ الممَّطِ طهيَ خليطِ السكرِ والجلوكوزِ والماءِ إلى درجةِ حرارةٍ معينة، ثمَّ إضافةِ المستخلصاتِ والنكهات. بعدَ ذلك، تُتركُ العجينةُ لتبردَ قليلًا، ثمَّ تُمدُّ وتُقطعُ إلى أشكالٍ مختلفة. سرُّ قوامِها المطاطيِّ يكمنُ في نسبةِ الجلوكوزِ والسكرِ المستخدمة، وفي عمليةِ التبريدِ والتشكيل.
نكهاتٌ وألوان: عالمٌ منَ المتعةِ البصريةِ والحسية
تُقدمُ الممَّطُ عادةً بألوانٍ زاهيةٍ وجذابة، وبنكهاتٍ متنوعةٍ مثلَ الفراولة، الليمون، البرتقال، والتفاح. قد تُضافُ إليها أحيانًا لمسةٌ منَ الحموضةِ باستخدامِ حمضِ الستريك، مما يُعطيها طعمًا منعشًا ومميزًا. إنَّ قدرةَ الممَّطِ على المطِّ والتمددِ تجعلُ منها حلوى ممتعةً للعبِ قبلَ الأكل، وهيَ تُعدُّ خيارًا مفضلاً في حفلاتِ أعيادِ الميلادِ وتجمعاتِ الأطفال.
خاتمةٌ حلوةٌ تدعو للتذوق
إنَّ هذهِ الحلوياتِ الشاميةَ المكونةَ من خمسةِ أحرفٍ – الهريسة، البلورية، زنود الست، والممَّط – ليستْ مجردَ أصنافٍ حلوةٍ تُسعدُ الحواس، بل هيَ تجسيدٌ لروحِ الضيافةِ والكرمِ التي تتميزُ بها بلادُ الشام. هيَ قصصٌ تُروى بالحبِ والخبرة، وتُقدمُ كرموزٍ للبهجةِ والاحتفاء. وكلُّ قضمةٍ منها هيَ دعوةٌ لتذوقِ التاريخِ، واستشعارِ دفءِ التقاليد، والاستمتاعِ بأجملِ ما يمكنُ أنْ تقدمَهُ لنا فنونُ الطهيِ الأصيلة. إنَّها إرثٌ حلوٌ يستحقُّ أنْ يُحتفى بهِ ويُتناقلَ عبرَ الأجيال.
