تراثٌ سكريٌّ عريق: استكشاف عالم الحلويات العربية السورية

تُعدّ الحلويات العربية السورية كنزاً ثميناً يمتدّ عبر قرون من التاريخ، شاهداً على حضارة غنية وتقاليد عريقة. إنها ليست مجرد أطباق حلوة المذاق، بل هي قصص تُروى، وذكريات تُستعاد، وتعبيرات عن كرم الضيافة والاحتفاء. من قلب دمشق القديمة إلى أزقة حلب النابضة بالحياة، تتنوع هذه الحلويات وتتشعب، مقدمةً تجربة حسية فريدة تأسر القلوب والأذواق. تتميز الحلويات السورية بتوازنها الدقيق بين الحلاوة والنكهات العطرية، واستخدامها للمكونات الطازجة وعالية الجودة، مما يجعلها محط إعجاب وتقدير ليس فقط في سوريا، بل وفي جميع أنحاء العالم.

سحر العجين والقطر: أصنافٌ لا تُحصى

تتمركز العديد من الحلويات السورية حول فن العجين والقطر، حيث تتجلى براعة الصانعين في تشكيل هذه المكونات الأساسية إلى إبداعات فنية.

الكنافة: أيقونةٌ سوريةٌ بامتياز

لا يمكن الحديث عن الحلويات السورية دون ذكر الكنافة. هذه الحلوى الأسطورية، التي تتكون من طبقات من الشعيرات الذهبية الرقيقة أو العجين المبسوس، تُخبز حتى يصبح لونها ذهبياً براقاً، ثم تُغمر بقطرٍ غزيرٍ مُعطّرٍ بماء الورد أو ماء الزهر. تتنوع أنواع الكنافة السورية، ولكل منها سحرها الخاص:

الكنافة النابلسية: على الرغم من ارتباط اسمها بنابلس في فلسطين، إلا أن الكنافة النابلسية السورية لها طابعها المميز. تتميز بطبقة سميكة من الجبن العكاوي أو النابلسي ذي الملوحة الخفيفة، والذي يذوب ليمنحها قواماً مطاطياً لذيذاً. تُقدم ساخنة، مع رشة من الفستق الحلبي المبشور.
الكنافة الخشنة (الشعيرية): تُصنع من شعيرات الكنافة الرفيعة والمقرمشة، وتُخبز لتكتسب لوناً ذهبياً فاتحاً. غالباً ما تُستخدم فيها نفس أنواع الجبن المستخدمة في النابلسية، وتُشكل طبقات رقيقة تتخللها حشوات متنوعة.
الكنافة الناعمة (العجينة): تُصنع هذه الكنافة من عجينة طرية ودقيقة، تُفرد وتُخبز لتصبح شبيهة بالبسبوسة. قد تُحشى بالمكسرات أو تُترك سادة، وتُسقى بالقطر بكثافة.
الكنافة بالقشطة: تُعدّ إضافة القشطة الطازجة الغنية بين طبقات الكنافة (سواء كانت خشنة أو ناعمة) لمسةً إضافيةً من الفخامة واللذة. القشطة السورية الأصيلة، الغنية والدسمة، تتمازج بشكل رائع مع قرمشة الكنافة وحلاوة القطر.

البقلاوة: فنٌّ يتوارثه الأجداد

تُعتبر البقلاوة من أقدم وأشهر الحلويات الشرقية، وقد برعت الأيادي السورية في إتقانها وتقديمها بأشكال ونكهات لا حصر لها. تتكون البقلاوة السورية من طبقات رقيقة جداً من عجينة الفيلو (أو عجينة الكلاج)، تُدهن بالزبدة أو السمن البلدي، ثم تُحشى بالمكسرات المطحونة (خاصة الفستق الحلبي والجوز)، وتُخبز حتى يصبح لونها ذهبياً. بعد ذلك، تُسقى بقطرٍ حلوٍ مُعطّر.

بقلاوة الفستق: هي الأكثر شهرة، حيث يُستخدم الفستق الحلبي الأخضر الزاهي بكثرة، ليمنح البقلاوة لوناً جذاباً ونكهة مميزة.
بقلاوة الجوز: تقدم نكهة مختلفة وأقل حدة من الفستق، وتُعدّ خياراً مفضلاً لدى البعض.
بقلاوة مشكلة: غالباً ما تجد تشكيلات متنوعة تضم أنواعاً مختلفة من المكسرات والحشوات، مثل بقلاوة البقلاوة، بقلاوة الأصابع، بقلاوة العش، وبقلاوة الهلال.
البقلاوة بالفستق الحلبي المبشور: بعض الأنواع تُغطى بالفستق الحلبي المبشور بكثافة بعد خبزها، مما يمنحها قواماً إضافياً ونكهة قوية.

الزنود الست: حكايةٌ من القشطة والقطر

اسمها وحده يوحي بالجاذبية. “الزنود الست” هي شرائح من عجينة الكلاج أو عجينة الفيلو الرقيقة، تُلف حول حشوة غنية من القشطة العربية الأصيلة، ثم تُقلى أو تُخبز حتى تكتسب لوناً ذهبياً مقرمشاً. بعد ذلك، تُغمر بالقطر الساخن وتُزين بالفستق الحلبي. القوام المقرمش للعجينة، مع حشوة القشطة الكريمية والقطر الحلو، يخلق توازناً رائعاً في النكهات والملمس.

المفروكة: خيوطٌ من السعادة

تُعدّ المفروكة من الحلويات الفاخرة التي تتطلب مهارة عالية في التحضير. تتكون من عجينة خاصة تُشبه الشعرية الرفيعة جداً، تُعجن بالسمن البلدي وتُخبز بلطف. بعد ذلك، تُفتت وتُخلط مع كمية وفيرة من الفستق الحلبي المطحون، ثم تُغطى بطبقة من القشطة الطازجة وتُزين بالفستق. غالباً ما تُقدّم في المناسبات الخاصة، وهي محبوبة لطعمها الغني والقوام الفريد.

حلوياتٌ تعتمد على الدقيق والسميد: دفءٌ وحميمية

تُشكل الحلويات المصنوعة من الدقيق والسميد جزءاً هاماً من المطبخ السوري، لما تمنحه من شعور بالدفء والحميمية.

البسبوسة (النُمورة): سحر السميد والحليب

البسبوسة، أو كما تُعرف في بعض المناطق السورية بالنُمورة، هي حلوى غنية بالسميد، تُخلط مع السكر، الزبادي أو الحليب، والسمن، وتُخبز في الفرن. ما يميز البسبوسة السورية هو غالباً استخدام لبن الزبادي الذي يمنحها طراوة إضافية، ورائحة ماء الزهر أو ماء الورد التي تُعطيها نكهة مميزة. تُزين غالباً بحبة لوز أو فستق، وتُسقى بالقطر فور خروجها من الفرن.

المعمول: بصماتٌ تُحكى قصصاً

المعمول هو حلوى تقليدية تُعدّ خصيصاً في الأعياد والمناسبات، خاصة عيد الفطر وعيد الميلاد. يتكون المعمول من عجينة طرية تُصنع من السميد أو الدقيق، وتُحشى بحشوات متنوعة، أبرزها:

معمول الفستق: يُحشى بخليط من الفستق الحلبي المطحون، السكر، وقليل من ماء الورد.
معمول الجوز: يُحشى بخليط من الجوز المطحون، السكر، وماء الورد أو القرفة.
معمول التمر: يُحشى بعجينة التمر الممزوجة بالقرفة والهيل.

يُشكل المعمول باستخدام قوالب خشبية مزخرفة، تمنحه أشكالاً هندسية وفنية رائعة، تُعدّ بصمة مميزة لكل عائلة. يُمكن أن يُخبز أو يُعدّ على البخار (المعمول المبروم).

الكعك (الكعك الحلبي): بساطةٌ تُرضي الذوق

الكعك الحلبي، وخاصة كعك العيد، هو عبارة عن بسكويت هش ولذيذ، يُصنع من الدقيق، السمن، السكر، ويُضاف إليه غالباً رائحة المستكة أو المحلب. يُخبز حتى يصبح لونه ذهبياً فاتحاً، ويُقدم مع الشاي أو القهوة. يتميز بقوامه الخفيف ونكهته المتوازنة التي لا تغلب عليها الحلاوة.

حلوياتٌ بالقشطة والكريمة: رفاهيةٌ تتجسد

تُضفي القشطة والكريمة لمسةً من الفخامة والرقي على العديد من الحلويات السورية.

الأرز بالحليب (أم علي): دفءٌ وراحة

على الرغم من وجوده في مطابخ عربية أخرى، إلا أن الأرز بالحليب السوري له طابعه الخاص. يُطبخ الأرز مع الحليب والسكر، ويُضاف إليه ماء الزهر أو ماء الورد، ثم يُخبز في الفرن ليُشكل طبقة ذهبية على سطحه. يُزين غالباً بالمكسرات المحمصة والفستق الحلبي. يُقدم بارداً أو دافئاً، وهو مريح ومُشبع.

الشعيبيات: قرمشةٌ وكريمةٌ منعشة

الشعيبيات هي من الحلويات الشهية والمحبوبة، وتتكون من طبقات رقيقة من عجينة الفيلو أو عجينة خاصة تُقلى لتصبح مقرمشة، ثم تُحشى بكريمة الحليب (القشطة) الغنية. تُسقى بالقطر وتُزين بالفستق. القوام المقرمش يتناغم بشكل رائع مع نعومة الكريمة، مما يجعلها حلوى منعشة ولذيذة.

المدلوقة: مزيجٌ فريدٌ من النكهات

المدلوقة هي حلوى فاخرة تجمع بين قوام عجينة الكنافة المبسوسة، والفستق الحلبي، والقشطة. تُخبز العجينة قليلاً، ثم تُخلط مع الفستق الحلبي المطحون، وتُغطى بطبقة سخية من القشطة الطازجة، وتُزين بالفستق. قد تُسقى بالقطر الخفيف. هي حلوى غنية بالنكهات والمكونات، وتقدم تجربة مختلفة عن الكنافة التقليدية.

النكهات العطرية واللمسات الخاصة

ما يميز الحلويات السورية حقاً هو الاهتمام بالتفاصيل الدقيقة والنكهات العطرية التي تضفي عليها طابعاً خاصاً. استخدام ماء الزهر وماء الورد المستخلص من أجود أنواع الزهور، الهيل، المستكة، والمحلب، كلها تساهم في بناء طبقات من الروائح العطرية التي تُكمل المذاق الحلو. السمن البلدي الأصيل، الفستق الحلبي ذو اللون الأخضر الزاهي، والجوز البلدي، كلها مكونات تُضفي على الحلويات السورية جودةً لا مثيل لها.

إن عالم الحلويات العربية السورية هو عالمٌ واسعٌ ومتجدد، يعكس أصالة المطبخ السوري وكرم ضيافته. كل قطعة حلوى تحمل قصة، وكل نكهة تروي حكاية عن تراثٍ عريقٍ يتوارثه الأجيال، ويحتفي بجمال الحياة وحلاوتها.