الطبخ بزيت الزيتون: وهم الصحة القاتل

لطالما احتفى العالم بزيت الزيتون على أنه “الذهب السائل”، رمز الصحة والعافية، والمكون السري لوجبات البحر الأبيض المتوسط الشهية. يُنظر إليه على أنه زيت الطهي المثالي، خفيف، مليء بمضادات الأكسدة، وصديق للقلب. ولكن ماذا لو أخبرتك أن هذا الاعتقاد الراسخ قد يكون مجرد وهم، وأن الطبخ بزيت الزيتون، خاصة عند درجات الحرارة العالية، قد يكون في الواقع ضارًا بصحتك؟ قد يبدو هذا الادعاء صادمًا، ولكنه مدعوم بمجموعة متزايدة من الأبحاث العلمية التي تكشف عن جوانب مظلمة لهذا الزيت المقدس.

فهم طبيعة زيت الزيتون: ما وراء الأسطورة

قبل الغوص في المخاطر المحتملة، من المهم فهم التركيب الكيميائي لزيت الزيتون. يتكون زيت الزيتون بشكل أساسي من الدهون الثلاثية، وهي جزيئات تتكون من الجلسرين وثلاثة أحماض دهنية. الجزء الأكبر من هذه الأحماض الدهنية هو حمض الأوليك، وهو حمض دهني أحادي غير مشبع. تُعتبر الأحماض الدهنية غير المشبعة، وخاصة الأحادية والمتعددة، صحية بشكل عام لأنها يمكن أن تساعد في خفض مستويات الكوليسترول الضار (LDL) ورفع مستويات الكوليسترول الجيد (HDL).

بالإضافة إلى الدهون الثلاثية، يحتوي زيت الزيتون على مركبات ثانوية ذات قيمة غذائية عالية، مثل البوليفينول (مضادات الأكسدة القوية) وفيتامين E. هذه المركبات هي التي تمنح زيت الزيتون نكهته المميزة وخصائصه المضادة للالتهابات والمضادة للأكسدة. ومع ذلك، فإن مدى استقرار هذه المركبات، وخاصة البوليفينول، عند تعرضها للحرارة هو مفتاح النقاش حول مدى أمان الطبخ بزيت الزيتون.

تأثير الحرارة على زيت الزيتون: نقطة الغليان والمواد المتطايرة

عندما نسخن زيت الزيتون، خاصة عند استخدامه في القلي أو التحمير، فإنه يتعرض لدرجات حرارة عالية. لكل زيت “نقطة تدخين” (smoke point)، وهي درجة الحرارة التي يبدأ عندها الزيت في التحلل وإنتاج أبخرة مرئية. عند هذه النقطة، تبدأ المركبات المفيدة في الزيت في التكسر، وتتكون مواد ضارة.

زيت الزيتون البكر الممتاز (Extra Virgin Olive Oil – EVOO)، وهو النوع الأكثر نقاءً وغنى بالبوليفينول، يتمتع بنقطة تدخين أقل نسبيًا مقارنة بالزيوت المكررة الأخرى. تتراوح نقطة التدخين لزيت الزيتون البكر الممتاز عادة بين 160-190 درجة مئوية (320-375 درجة فهرنهايت). في حين أن هذا قد يبدو مرتفعًا، إلا أن العديد من تقنيات الطهي الشائعة، مثل القلي العميق، تتجاوز هذه الدرجات بكثير.

عندما يتجاوز زيت الزيتون نقطة تدخينه، تحدث عدة عمليات كيميائية ضارة:

تكوين المواد المؤكسدة: تتكسر الأحماض الدهنية في الزيت وتتفاعل مع الأكسجين لتكوين مركبات مؤكسدة، مثل الألدهيدات والكيتونات. هذه المركبات يمكن أن تكون سامة ومسببة للالتهابات في الجسم.
فقدان مضادات الأكسدة: تتحلل البوليفينول والفيتامينات المفيدة في الزيت عند درجات الحرارة العالية، مما يقلل من قيمته الغذائية والصحية.
تكوين مواد مسرطنة محتملة: تشير بعض الدراسات إلى أن تسخين زيت الزيتون إلى درجات حرارة عالية يمكن أن يؤدي إلى تكوين مركبات مثل الأكرولين، وهو مادة سامة ومسرطنة محتملة.

البوليفينول والحرارة: حامي أم ضعيف؟

يُعتبر البوليفينول في زيت الزيتون من أبرز العوامل التي تمنحه سمعته الصحية. هذه المركبات، مثل الأوليوكانثال (oleocanthal) والهيدروكسي تيروسول (hydroxytyrosol)، لها خصائص مضادة للالتهابات ومضادة للأكسدة قوية، تشبه إلى حد كبير تأثير الإيبوبروفين في تخفيف الألم. ولكن، هل تصمد هذه البوليفينول أمام قسوة الحرارة؟

تشير الأبحاث إلى أن البوليفينول حساسة للحرارة، خاصة عند التعرض لها لفترات طويلة. على الرغم من أن بعض البوليفينول قد تكون أكثر استقرارًا من غيرها، إلا أن عملية الطهي، وخاصة القلي، يمكن أن تؤدي إلى تدهور كبير في تركيزها. هذا يعني أن زيت الزيتون الذي نستخدمه للقلي قد يفقد جزءًا كبيرًا من خصائصه الوقائية، ويتحول من مضاد للالتهابات إلى مصدر للالتهاب.

التراكم في الجسم: مخاطر الدهون المؤكسدة

عندما نستهلك زيت زيتون تم تسخينه بشكل مفرط، فإننا لا نستهلك فقط الزيت نفسه، بل أيضًا المنتجات الثانوية الضارة التي تكونت نتيجة للتحلل الحراري. هذه المركبات المؤكسدة يمكن أن تتراكم في الجسم بمرور الوقت.

الإجهاد التأكسدي: يمكن للمواد المؤكسدة أن تزيد من الإجهاد التأكسدي في الخلايا، وهو حالة اختلال التوازن بين إنتاج الجذور الحرة وآليات الدفاع المضادة للأكسدة في الجسم. الإجهاد التأكسدي مرتبط بالعديد من الأمراض المزمنة، بما في ذلك أمراض القلب، السرطان، والشيخوخة المبكرة.
التهاب الأوعية الدموية: تشير بعض الدراسات إلى أن استهلاك الدهون المؤكسدة يمكن أن يؤثر سلبًا على وظيفة بطانة الأوعية الدموية (endothelium)، وهي الطبقة الداخلية للأوعية الدموية المسؤولة عن تنظيم تدفق الدم ومنع تكون الجلطات. هذا يمكن أن يزيد من خطر الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية.
تأثير على الكوليسترول: بينما يُعرف زيت الزيتون بقدرته على تحسين مستويات الكوليسترول، فإن تسخينه بشكل مفرط قد يغير هذا التأثير. يمكن للمركبات المؤكسدة أن تجعل جزيئات الكوليسترول (خاصة LDL) أكثر عرضة للأكسدة، مما يجعلها أكثر ضررًا ويسهم في تصلب الشرايين.

متى يكون الطبخ بزيت الزيتون مقبولًا؟

لا يعني هذا أن زيت الزيتون يجب أن يُهمل تمامًا في المطبخ. هناك سياقات يكون فيها استخدام زيت الزيتون آمنًا وربما مفيدًا:

التتبيل والسلطات: يعتبر زيت الزيتون البكر الممتاز مثاليًا للاستخدام نيئًا في تتبيل السلطات، غموس الخبز، أو كطبقة أخيرة على الأطباق المطبوخة. في هذه الحالات، يتم الاحتفاظ بجميع مركباته المفيدة، بما في ذلك البوليفينول، دون تعرضها للحرارة.
الطهي على درجات حرارة منخفضة: يمكن استخدام زيت الزيتون في الطهي على درجات حرارة منخفضة أو متوسطة، مثل تشويح الخضروات بلطف أو في تتبيلات اللحوم التي لا تتطلب طهيًا عالي الحرارة.
الطهي السريع: يمكن استخدامه في بعض تقنيات الطهي السريعة جدًا، مثل قلي البيض على نار هادئة.

الزيوت البديلة للطهي على درجات حرارة عالية

إذا كنت من محبي القلي العميق أو الطهي على درجات حرارة عالية، فقد يكون من الأفضل استبدال زيت الزيتون بخيارات أخرى أكثر استقرارًا:

زيت الأفوكادو: يتمتع بنقطة تدخين عالية جدًا (حوالي 270 درجة مئوية / 520 درجة فهرنهايت)، وهو غني بالدهون الأحادية غير المشبعة، ولكنه يفتقر إلى البوليفينول الموجودة في زيت الزيتون.
زيت جوز الهند: نقطة تدخينه متوسطة إلى عالية (حوالي 177 درجة مئوية / 350 درجة فهرنهايت)، وهو غني بالدهون المشبعة، التي لها خصائص مختلفة عن الدهون غير المشبعة.
زيت الكانولا المكرر: يتمتع بنقطة تدخين أعلى من زيت الزيتون البكر الممتاز، ولكنه زيت مكرر وقد يكون أقل في المركبات المفيدة.
الدهون الحيوانية: مثل السمن أو شحم الخنزير، والتي تتمتع بنقاط تدخين عالية جدًا، ولكنها غنية بالدهون المشبعة والكوليسترول.

الخلاصة: إعادة تقييم مكانة زيت الزيتون في مطبخنا

لا شك أن زيت الزيتون البكر الممتاز يقدم فوائد صحية هائلة عند استهلاكه نيئًا أو في طرق الطهي المعتدلة. إنه كنز غذائي بفضل مركباته الفريدة. ومع ذلك، فإن الاعتقاد بأنه “زيت الطهي المثالي” لكل الأغراض، وخاصة القلي العميق، هو اعتقاد خاطئ قد يحمل في طياته مخاطر صحية غير متوقعة.

إن فهم نقطة تدخين الزيوت المختلفة، وتأثير الحرارة على تركيبتها، هو أمر أساسي لاتخاذ قرارات غذائية مستنيرة. بدلاً من رمي زيت الزيتون في مقلاة ساخنة، قد يكون من الأفضل استخدامه بالطريقة التي صممت الطبيعة لتقديم فوائده كاملة: طازجًا، نيئًا، أو في طهي لطيف. إن إعادة تقييم مكانة زيت الزيتون في مطبخنا، مع استخدامه بحكمة، هو الخطوة الأولى نحو تحقيق أقصى استفادة من “الذهب السائل” دون الوقوع في فخ الوهم الصحي.