عندما يصبح النشاط صحة.. مخاطر الإفراط في المشي
المشي، ذلك النشاط البدني البسيط والمتاح للجميع، لطالما ارتبط ارتباطًا وثيقًا بالصحة والعافية. إنه يُعتبر بمثابة الدواء السحري لتخفيف التوتر، وتعزيز اللياقة البدنية، والحفاظ على وزن مثالي. ولكن، كأي شيء في الحياة، حتى الأمور الجيدة يمكن أن تتحول إلى ضارة عند الإفراط فيها. فالجسم البشري، رغم قدرته العالية على التكيف، له حدوده، وتجاوز هذه الحدود بالمشي المفرط يمكن أن يؤدي إلى سلسلة من المشاكل الصحية التي قد تفوق فوائد هذا النشاط.
متى يصبح المشي “الكثير“؟
قبل الخوض في الأضرار، من المهم أن نفهم ما نعنيه بـ “المشي الكثير”. لا يوجد رقم سحري ينطبق على الجميع، فذلك يعتمد على عدة عوامل مثل مستوى اللياقة البدنية الحالي، العمر، الحالة الصحية العامة، ونوعية الأسطح التي يتم المشي عليها. ومع ذلك، يمكن اعتبار المشي لساعات طويلة بشكل يومي، خاصةً للمبتدئين أو لمن لا يعتادون على ذلك، بمثابة إفراط. كذلك، إذا بدأ الشخص يشعر بآلام مستمرة أو إرهاق شديد بعد المشي، فهذه علامة واضحة على أن الكمية قد تكون زائدة عن الحد.
الآلام الجسدية.. الثمن المباشر للإفراط
عندما نتحدث عن أضرار المشي الكثير، فإن أول ما يتبادر إلى الذهن هو الآلام الجسدية. الجسم، وخاصة الأطراف السفلية، يتعرض لضغوط متكررة أثناء المشي. والإفراط في هذا الضغط دون إعطاء الجسم الوقت الكافي للتعافي يمكن أن يؤدي إلى:
إجهاد العضلات والأوتار
العضلات والأوتار هي أول من يشعر بثقل المشي الزائد. قد تبدأ بآلام خفيفة في الساقين أو القدمين، تتطور لتصبح تقلصات مؤلمة، أو حتى تمزقات دقيقة في الألياف العضلية. هذا الإجهاد المستمر يمنع العضلات من الاسترخاء والتعافي، مما يجعلها أكثر عرضة للإصابات.
مشاكل المفاصل
المفاصل، وخاصة الركبتين والكاحلين والوركين، هي نقاط ارتكاز أساسية في عملية المشي. كل خطوة تضع ضغطًا على هذه المفاصل. الإفراط في المشي، خاصة على الأسطح الصلبة أو مع ارتداء أحذية غير مناسبة، يمكن أن يؤدي إلى التهاب المفاصل، وزيادة الاحتكاك، وتآكل الغضاريف على المدى الطويل. قد يشعر الشخص بآلام حادة، وتورم، وصعوبة في الحركة، مما قد يتطلب تدخلاً طبيًا.
التهاب اللفافة الأخمصية
هذه الإصابة شائعة جدًا بين العدائين والمشاة لمسافات طويلة. اللفافة الأخمصية هي شريط سميك من الأنسجة يمتد من الكعب إلى مقدمة القدم. عند تعرضها للإجهاد الزائد، يمكن أن تلتهب، مسببة آلامًا حادة في الكعب، خاصة عند الاستيقاظ صباحًا أو بعد فترة من الراحة. المشي المفرط، خاصة مع عدم كفاية دعم لقوس القدم، هو سبب رئيسي لهذه الحالة.
إصابات العظام الإجهادية (Stress Fractures)
قد لا تكون هذه الإصابات واضحة في البداية، لكنها حقيقية وخطيرة. تسمى بـ “كسور الإجهاد” وهي شقوق صغيرة في العظام تحدث بسبب الضغط المتكرر والمستمر. القدم والساق من أكثر الأماكن عرضة لهذه الكسور. الشعور بألم عميق ومستمر في العظام، يزداد سوءًا مع النشاط، هو علامة تحذيرية.
التأثير على الصحة العامة.. ما وراء الألم الجسدي
لا تقتصر أضرار المشي المفرط على الألم الجسدي المباشر، بل يمكن أن تؤثر على الصحة العامة بطرق أقل وضوحًا ولكنها لا تقل أهمية:
الإرهاق العام وفقدان الطاقة
قد يبدو هذا الأمر متناقضًا، فالمشي يُفترض أن يزيد الطاقة. ولكن، عند الإفراط فيه، يتحول الجسم إلى حالة من الإرهاق الشديد. يبدأ الجهاز العصبي في الشعور بالضغط، وتستنزف مخازن الطاقة في الجسم بشكل أسرع مما يمكن تجديده. هذا يؤدي إلى الشعور بالخمول، وصعوبة التركيز، وانخفاض القدرة على التحمل في الأنشطة اليومية الأخرى.
تأثير على الجهاز المناعي
الإجهاد البدني الشديد، بما في ذلك الإفراط في المشي، يمكن أن يضعف الجهاز المناعي مؤقتًا. عندما يكون الجسم تحت ضغط مستمر، تنخفض قدرته على مكافحة العدوى. قد يلاحظ الشخص أنه أصبح أكثر عرضة للإصابة بنزلات البرد أو غيرها من الأمراض.
اضطرابات النوم
رغم أن المشي المنتظم يساعد على تحسين جودة النوم، إلا أن المشي المفرط، خاصة في أوقات متأخرة من اليوم، يمكن أن يؤدي إلى اضطرابات النوم. الإرهاق الشديد يمكن أن يجعل من الصعب على الجسم الاسترخاء والخلود إلى النوم، أو قد يؤدي إلى نوم متقطع وغير مريح.
التأثير النفسي
الإفراط في أي نشاط، بما في ذلك المشي، يمكن أن يتحول إلى هوس. قد يشعر الشخص بالذنب إذا لم يمشِ الكمية المحددة له، أو قد يشعر بالإحباط إذا لم يتمكن من ذلك بسبب الألم أو الإرهاق. هذا يمكن أن يؤدي إلى القلق، والشعور بالإحباط، وحتى الاكتئاب، ويحول نشاطًا صحيًا إلى مصدر للتوتر.
كيف نتجنب الوقوع في فخ الإفراط؟
الوقاية خير من العلاج، وتجنب أضرار المشي المفرط يتم من خلال اتباع بعض الممارسات الذكية:
الاستماع إلى جسدك: هذه هي القاعدة الذهبية. أي شعور بالألم، حتى لو كان خفيفًا، يجب أن يؤخذ على محمل الجد. لا تضغط على نفسك لتجاوز الألم.
التدرج في زيادة المسافة والشدة: إذا كنت مبتدئًا، ابدأ بمسافات قصيرة وزدها تدريجيًا مع مرور الوقت. لا تقفز من المشي 10 دقائق إلى ساعتين في يوم وليلة.
اختيار الأحذية المناسبة: استثمر في أحذية مشي مريحة توفر الدعم اللازم لقدميك ومفاصلك.
اختيار الأسطح المناسبة: حاول المشي على أسطح أكثر ليونة مثل العشب أو المسارات المخصصة للمشي، وتجنب الأسفلت أو الخرسانة قدر الإمكان.
إعطاء الجسم وقتًا للتعافي: الراحة جزء لا يتجزأ من أي برنامج رياضي. تأكد من حصولك على أيام راحة كافية بين جلسات المشي الطويلة.
التغذية والترطيب: شرب كميات كافية من الماء وتناول نظام غذائي متوازن يساعد الجسم على التعافي وإعادة بناء الأنسجة.
استشارة المختصين: إذا كنت تعاني من مشاكل صحية موجودة مسبقًا، أو إذا كنت تشعر بآلام مستمرة، فاستشر طبيبك أو أخصائي العلاج الطبيعي قبل البدء في برنامج مشي مكثف.
في الختام، المشي هو هبة عظيمة للصحة، ولكن مثل أي هبة، يجب التعامل معها بحكمة. إن فهم حدود أجسادنا والاستماع إلى إشاراتها هو مفتاح الاستمتاع بفوائد المشي دون الوقوع في براثن أضراره.
